الباز وفرضيات في عيونها جواهر

أمير بابكر

هي فقط مقتضيات الحرفة ما يجبرني على كتابة اسم الباز في العنوان هكذا "حاف" بدون أن تسبقها كلمة أستاذ. وقد وطنت نفسي على مخاطبة كل من علمها أثناء مسيرتها الحياتية بلقب أستاذ، وهو من الذين تعلمت منهم الكثير ولم يبخل علي بالمساعدة بالرأي والمشورة، منذ أن جمعنا العزيز جابي فايز في مكتبه بصحيفة الأحداث بعمارة "كوبتريد" شارع البلدية، بداية شهور انطلاقها.

 ابتدر استاذنا عادل الباز مقالة ثلاثية تناولت خطاب البرهان في ضاحية خطَّاب بالخرطوم، محاولاً الإجابة على تساؤل طرحه عن "لماذا استهدف البرهان الإسلاميين"، وختمها بأبيات الشاعر المجيد أمل دنقل من قصيدته الشهيرة "لا تصالح" مخاطباً البرهان:

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما

هل ترى؟

هي أشياء لا تشترى

ومدخلنا إلى قراءة تساؤل أستاذنا الباز، لماذا استهدف البرهان الإسلاميين؟"، وهي مقتصرة على فرضياته في الجزء الثالث، هو مخالفته لدلالات تساؤل دنقل الذي جاء سؤاله "هل ترى؟" استفهامياً، رغم معرفته الإجابة مسبقاً باستحالة أن ترى العين بعد أن تُفقأ وإن وضعت مكانها جوهرة ثمينة. إذ تكشف قراءة المقالة أن الباز لم يطرح سؤالاً استفهامياً ليجيب عليه هو أو غيره بإعمال أدوات التحليل واستخدام المعلومات، بل كان تساؤلاً استنكارياً للخطوة التي أقدم عليها البرهان بوضع أصبعه على مكان ربما ظل مسبباً لأوجاعه وتخبطه منذ ظهوره في ميدان اعتصام القيادة العامة وحتى لحظة مخاطبته لمعسكر خطَّاب.

الباز لم يجب على تساؤله، وهو ما كان يتوقعه القاريء، باعتبار أن لديه قنواته التي تمده بالمعلومات وهو الإسلامي بالأصالة إلى جانب مهنته الأصلية وهي الصحافة "التي كل ما حاول الابتعاد عنها تحت إغراءات الدولار ريال شيك سياحي، عاد إليها كما العرجاء". فبعد تحليله لموقف الإسلاميين من البرهان وسلطته في الجزء الأول، واستعراضه لبؤر أعداء البرهان في الجزء الثاني من المقالة، يكتشف القاريء إنه لم يطرح سؤاله لنحصل أو يحصل هو على إجابة، وإنما هو استنكار للموقف الأخير للبرهان من الإسلاميين الذين يقفون إلى جانبه والذي أعلنه صراحة في "خطَّاب"، ولماذا يضيف أعداء جدد إلى جانب كل الذين صنفهم الباز كأعداء له، رغم أن الإسلاميين - في رأي الباز- كانوا "كافين خيرهم شرهم"، وانسحبوا من المشهد السياسي منذ اقتلاع البشير والآن هم يعيدون ترتيب صفوفهم انتظاراً للانتخابات، كما يقول.

ذهب الباز في الجزء الثالث من مقالته إلى وضع فرضيات بعد أن استهل هذا الجزء مقراً "بأنه لا يملك إجابة على وجه اليقين" على سؤاله. في تلك الفرضيات لم يترك الباز للقاريء مهمة أن يستكشف مدى تماسكها، بل أعمل فيها مبضعه الهادم لأساسها، رغم أنه هو من افترضها لا أحد غيره وهو أمر مشروع في البحوث العلمية.

فهو في الفرضية الأولى قفز مباشرة إلى نسفها بأنها فرضية تستند إلى أوهام. وهي مبنية على أن البرهان قرر، بعد أن نظر إلى المخاطر التي تحدق بالبلاد، فتح الطريق لتشكيل "حكومة مدنية ذات مصداقية يطالب بها الغرب" قائمة على أرضية أساسها دستور تسييرية المحامين، على أمل أن تفتح له أبواب الغرب وتخفف من الأزمة الاقتصادية المستفحلة، هو ما دفعه لعقد صفقة (بيع الإسلاميين وشراء قحت).

وضع الباز جوهرة في عين فرضيته الأولى بتجاهله أن البرهان، الذي ينبغي أن يكون عسكرياً فطناً ولا يلدغ من جحر الوعود مرتين، هو من أدخل البلاد في هذا المأزق بعرقلته المستمرة لمسار الفترة الانتقالية المفروض أن تفضي لتأسيس الدولة لتستوعب مشروع التحول الديمقراطي في نهايتها، وهو ما طلبت به ثورة ديسمبر المجيدة، وأكملها بإنقلابه على المشهد برمته في أكتوبر العام الماضي. ووجد البرهان فرصته في إعادة الروح للحركة الإسلامية لضعف القوى السياسية التي تصدت لمهام الانتقال بعد إسقاط البشير وتفرقها وادي امتيازات السلطة، قبل أن يرتد إليها طرف الوعي بالواقع بعد أن وجدت نفسها خارج دائرة اتخاذ القرار السلطوي.

في ذات الوقت تجاهل الباز أن السلطة التنفيذية التي كان يقودها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، نتفق أو نختلف حول أداءها، خطت خطوات مهمة في سبيل الخروج بالسودان من غيابة الجب الذي رموه فيه أبناؤه العاقون من الإسلاميين. ولعل ما دفع بالإسلاميين، المستعجلين لاستعادة امتيازاتهم القديمة، لتأييد والوقوف خلف إنقلاب البرهان هو اعتقادهم بأن هذه الخطوات كافية لتولي مهام فترة الانتقال المتبقية لقطع الطريق أمام أي إصلاحات في بنية الدولة ومؤسساتها. وكانوا يعتقدون أن الخطوات التي تمت من خروج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وفتح قنوات النظام المصرفي العالمي، والتي حفيت أقدامهم لسنوات أثناء حكمهم من أجل الخروج من مأزق أدخلوا فيه البلاد والعباد بأنفسهم، وقد شاهدت مقطع فيديو للسيد حسين خوجلي يتساءل فيه عن لماذا لا نكون مثل بقية العالم وتكون علاقتنا مع "امريكا" جيدة.

لكن العالم الذي ساند وأيد ودعم ثورة ديسمبر "شاطر"، والشعب عرف أن شعارات مثل "لا لدنيا قد عملنا" مجرد لافتات. ومرة أخرى يدخل البرهان البلاد في غيابة الجب عندما ظن، وكل ظنه إثم، أن السلطة قد دانت له وأن كل العراقيل التي وضعها أمام الحكومة الانتقالية قد قضت على جذوة الثورة، وقبرت تطلعات الشعب في الحرية والسلام والعدالة.

في فرضيته الثانية يذهب أستاذنا الباز إلى أن قرار البرهان التضحية بالإسلاميين جاء نزولاً عند رغبات قوى إقليمية ودولية. لم يذهب أستاذنا الباز إلى تأكيد هذه الفرضية من عدمها كما تقتضي الأمور، بل نحى في اتجاه آخر بمحاولة إغراء البرهان الصمود في وجه العاصفة الدولية والإقليمية مثلما فعل سلفه البشير الذي صمد لثلاثين عاماً. وتجاهل أستاذنا رغم عقلانيته التي أعرفها، لكنها تلك الجوهرة الموضوعة في العين، ماذا فعلت تلك الثلاثين عاماً بالسودان وأهله، وربما أصابه هو شخصياً "رايش" من دوغما الاسلاميين وتجبرهم.

لكن الأهم في هذه الفرضية أن نظام الإنقاذ، وبعد سنواته الأولى، أصبح أداة طيعة في أيدي الغرب والأمريكان بالتحديد، والسيف مسلط على رقبته. وينفذ رغباتها وهو طائع ويسلم إليها الإرهابيين قبل أن يطلب منه، ويمدها بالمعلومات الاستخباراتية، ويسلم كارلوس لفرنسا ووو، على أمل أن يخرج من الحفرة التي أوقع نفسه فيها. إذ لم تكن تلك الدولة مشغولة بإقتلاع النظام بقدر ما كانت مشغولة بإحداث تغييرات جيوسياسية في المنطقة لن ينفذها إلا نظام الإنقاذ وهو في أدنى درجات ضعفه.

أما الفرضية التي لا تقوم على ساقين فهي عند أستاذنا الباز قرار البرهان التضحية بالإسلاميين لتقديره أن الشارع رافض للإسلاميين. وهو يتفادى هذه الفرضية بإحالتها بطريقة "إبليسية" للانتخابات، وكأنما يقول للشعب "أنظرني إلى يوم ينتخبون". ولكن هل ترك الإسلاميون الشارع للمتصارعين كما ذهب أستاذنا؟ وهم الذين درجوا على الخروج في الفارغة والمقدودة كما يفعلون هذه الأيام. لكن الكل يعلم، وهم بكل تأكيد يعلمون، إن قطاعات عريضة من الشعب كانت تتعاطف معهم في وقت ما نفضت يدها عنهم بعد أن تكشفت له بأن هي "ليست لله" بل "للسلطة والجاه".

لن أقول مثل من قال "نحن ال 98% من الشارع"، واتضح له بعدها إن قوله مجرد فقاعة وهو يرى الجموع في كل مدن السودان تطالب بإسقاط نظامه. فللإسلاميين وجود لا ينكره أحد، بل من ركائز الديمقراطية أن تتعدد الأفكار والبرامج والرؤى، ولكن وفق قواعد لعبة متفق عليها بين الجميع، لا كما يذهب أستاذنا في في فرضيته القادمة التي سأتناولها. على الباز أن يبذل النصح للإسلاميين، وأعلم أنه يفعل، بأهمية المراجعة وإعادة التفكير في أن الوطن للجميع وقراءة التحولات الاجتماعية الكبرى، وربما إذا كانت هناك حسنة في حكم الإسلاميين للسودان ثلاثين عاماً فهي خلخلة بنية عقل القطيع، على عكس ما أرادوا بمشروعهم الحضاري. وعليه أن يدعم ما قاله صديقه الدكتور عبد الوهاب الأفندي، في منشور على فيس بوك، وهو ينصح مناصري الانقاذ بأن استعراض القوة الزائفة لن ينفع البلاد ولن ينفعهم هم أنفسهم "بل الاعتراف بالأخطاء والتكفير عنها بدعم التحول الديمقراطي. كانت السلطة في يدهم دهراً ولم يؤدوا حقها أو يكسبوا في إيمانهم خيراً. فليخدموا أنفسهم والدين والوطن بالصمت والاختفاء وتكرار الاعتذار والندامة إذا نطقوا".

الفرضية الهزيلة بالنسبة لأستاذنا الباز، والأخطر بالنسبة لي، هي ظن البرهان أن التضحية بالإسلاميين بعد أن أصبحوا مكشوفين بعد سيطرته على كافة الأجهزة العسكرية والأمنية وتصفية خلافاته مع الدعم السريع. يذهب الباز في هذه الفرضية إلى جوهر المسألة وهو وجود إسلاميين بأعداد مقدرة في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. وهنا مربط الفرس الذي يكشف فيه الباز دون أن يقصد من يقف وراء تهديد الفترة الانتقالية. فهو بصريح العبارة يقول "لا بد أن الرئيس ـ يقصد البرهان ـ يدرك أن تصفية التيار الوطني الإسلامي بالجيش مستحيل" إلا بتفكيكه بواسطة فولكر واستبداله بقوات الدعم السريع ومليشيا عبد الواحد والحلو.

ومعروف ما فعلته الجبهة الإسلامية القومية، ما قبل انتفاضة أبريل 1985، باستهداف اختراقها للجيش كعامل رئيسي في سبيل وصولها للسلطة، ويمكن الرجوع لكتاب الأستاذ المحبوب عبد السلام "دائرة الضو .. خيوط الظلام"، وهذا ما يدفع الآن الكثيرين ليرددوا "الجيش جيش السودان وليس جيش البرهان أو الكيزان".

وما يسعى الإسلاميون وآخرون لترسيخه الآن، بل ومنذ بداية الثورة، أن المستهدف هو تفكيك الجيش وذلك في محاولة لقطع الطريق أمام تصفية الجيش من وجود بؤر سياسية داخله وإعادته لجادة الاحتراف بالعودة لثكناته والقيام بمهامه الطبيعية. فالجيش مؤسسة دولة وليس مؤسسة سلطة يتغير ويتبدل بتغيير وتبدل السلطة، وإنما يستمد وجوده من وجود الدولة فلا هو سيبقى بدون دولة ولا الدولة ستكون بدونه. وأكثر ما يخشاه الأسلاميون ليس أموالهم فهي سوف تعود ولا كراسي السلطة إذ يمكن العودة إليها، ولكن ما يخشونه هو تصفية وجودهم في الأجهزة العسكرية والأمنية، فهي سبيلهم الأسرع والأضمن لاستعادة امتيازاتهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق