فندق الأكروبول.. تفجيرات هزَّت الخرطوم

 مع تقديرنا للمركز القانوني الدولي لرجال المقاومة الفلسطينية بما يكسبهم صفة المحاربين في مواجهة العدو الإسرائيلي فيما يقع منهم بداخل أو خارج الأرض المحتلة، مما يخضعهم حينذاك لقانون الحرب، إلا إن إلتزامات السودان الدولية تقتضي خضوع ما يقع منهم من أعمال ضد الممثلين السياسيين المعتمدين في السودان لقانون العقوبات الساري في السودان."


هذا جزء من ما ورد في حكم المحكمة العليا في قضية أيلول الأسود التي نفذت مجموعة من أعضائها عملية اقتحام واحتلال السفارة السعودية في الخرطوم مطلع سبعينيات القرن الماضي، وهو الذي اعتمدت عليه المحكمة التي نظرت في الاستئناف المقدم من هيئة الدفاع عن مرتكبي جريمة تفجير فندق الأكروبول وسط الخرطوم واقتحام النادي السوداني وإطلاق زخات من الرصاص داخل حرمه في مايو 1988. محكمة الاستئناف وجدت في مجريات محاكمة أعضاء منظمة أيلول الأسود سابقة قضائية اعتمدت عليها، وهي تؤيد الحكم الذي أصدرته محكمة عليا بالإعدام شنقاً حتى الموت للمتهمين الفلسطينيين الخمسة الذين انتموا هذه المرة إلى منظمة اطلقت على نفسها "الخلايا الثورية العربية".
ما قبل المشهد الأول
كانت تلك أول مرة أسمع فيها باسم فندق الأكروبول وموقعه، حيث كنت على مسافة بضعة مئات من الأمتار عندما اهتزت أقدامي قبل إلتقاط أذني لصوت دوي هائل، وأنا أحاول عبور شارع القصر من الشرق إلى الغرب للقاء أصدقاء لي في كافتيريا "كوبا كبانا" التي تحتل خاصرة فندق المريديان "وقتها".
الفندق يقع في وسط السوق "الأفرنجي" –حسب التقسيمات الطبقية للأسواق قبل اختلاط الحابل بالنابل ويصبح "كلو سوق عربي"- واستمد إسمه من خلفية صاحبه اليونانية أو كما جاء في رواية السيدة "ليليان كريق هارس" التي ترجمها صاحب الحساسية الفنية والإبداعية العالية "بدر الدين حامد العاشمي". تقول الرواية "فر الأغريقي "بيناقهز اثاناوسس باقويولاتس" خلال الحرب العالمية الثانية بجلده من أتون معارك الحرب الأهلية في جزيرته "سافلاونيا"، وهاجر لمصر حيث وقع هنالك في غرام فتاة اسمها "فلورا ادريان فانوس" في الإسكندرية وتزوجها. قررا بعد حين أن يهاجرا للخرطوم بحثا عن حياة أفضل ومعاش أكرم. كانت تلك هجرة منطقية، إذ أنه في تلك الأيام كانت أعداد الأغاريق في الخرطوم قد بلغت آلافا كثيرة. في البدء عمل بيناقهز باقويولاتس، ولفترة بسيطة، في خدمة السلطات البريطانية كمحاسب. هجر بعدها العمل الحكومي وافتتح ناديا ليليا مقابلا لقصر الحاكم البريطاني. سارت أموره حينا من الدهر على أفضل حال، حتى ضج جاره (الحاكم البريطاني نفسه) بالشكوى من الضجيج العالي، والموسيقى الصاخبة، التي كانت لا تنفك تشق سكون ليالي الخرطوم الهادئة وحتى ساعات الصباح الأولى. تم بالطبع قفل النادي، وبطريقة تعوزها الكرامة. كان على الرجل الإغريقي أن يبحث له عن عمل آخر يكسب منه عيشه. أثبتت وظيفة بابا باقويولاتس الجديدة عمق فهم الرجل لبلده الثاني، السودان. كان الرجل، وبحكم احتكاكه بالسودانيين، قد لاحظ حبهم للحلويات، وغرامهم بالمشروبات الكحولية، فقام بافتتاح محل لصنع الخبز والحلويات (الباسطة والكنافة الخ)، ومحلا آخر لبيع الخمور. لم يقف طموح باقويولاتس عند هذا الحد، فقد كان رجل أعمال حقيقي، وصاحب رؤية نافذة وبصيرة ثاقبة، فأفتتح فندق  الأكروبول في مبنى استأجره لهذا الغرض وذلك في عام 1952م."
وعمَّد باقويولاتس فندقه باسم الأكروبول تيمناً بالمعبد اليوناني القديم الذي يقع في العاصمة اليونانية أثينا على قمة تل، ويعد من أشهر المعابد اليونانية القديمة وكلمة أكروبوليس Acropolis كلمة يونانية قديمة تعني المدينة العالية.
في ذلك الشارع الجانبي بين شارعي الجمهورية والبلدية يقف على استحياء ودون ضجة فندق الأكروبول، لا يكاد يثير انتباه المارة ولا حساسيتهم مثلما تفعل تلك الفنادق الفخمة المتطاولة في البنيان، حيث يقع الأكروبول في بناية من طابقين وطابق أرضي تحتله بعض المحال التجارية. لكن الحياة التي تمور داخله هو ما قاد لتلك الواقعة الكارثية التي حدثت. فالفندق كما وصفت الحياة فيه السيدة ليليان (وهي بالمناسبة زوجة سفير بريطانيا السابق في الخرطوم آلان قولتي) من الداخل لا يوحي بذلك السكون المخادع الذي يبدو عليه من الخارج "رغم أنني من اللواتي يفضلن تناول طعام الإفطار في صمت، إلا أني قد وقعت بسهولة في مصيدة الحديث مع زبائن الفندق وهم يتناولون طعام الإفطار، ومنهم على سبيل المثال عالم نفسي أمريكي يعمل مع القساوسة الكاثوليك المصابين بعلل نفسية، وممثل لرابطة كرة القدم الانجليزية، وعلماء آثار، وسياح من مختلف الدول، وقساوسة إنجيليين من جنوب لندن، وممثلين لمنظمات إغاثة دولية، وعالم لاهوت دينماركي، ونمساوي  كان يعمل على تنمية الجنوب قبل أن يتم طرده من هناك مع ثلة من رفاقه. لم يكن لي أن أقابل كل هؤلاء الرجال – وغيرهم من الرجال والنساء- لولا هذا الأكروبول! كان غالب من ذكرت يريد أن "يفعل شيئا ما" لمساعدة السودان، عدا قلة من المقامرين الذين كانت غايتهم التكسب المادي من المصاعب التي يكابدها السودان".
على خطى أيلول الأسود
"ولا حاجة بنا للتذكير بأن السودان في حالة حرب معلنة مع إسرائيل لكنه ليس في حالة حرب، أو حتى حالة عداء، مع دول الضحايا من قتلى وجرحى." هذا ما أشار إليه قاضي الاستئناف مؤيداً حكم الإعدام على الفلسطينيين الخمس، مطبقاً مبدأ "إن التمسك بممارسة المتهمين لحق الدفاع الشرعي عن أنفسهم وعن الوجود الفلسطيني بقتل المجني عليهم، لا تتوفر فيه الأركان القانونية لنشوء حق الدفاع الشرعي الذي تتطلب ممارسته قيام اعتداء فعلي حال - أو وشيك الوقوع - يستلزم رده اللجوء إلي القوة أو العنف ولكن من الجائز أخذ ذلك في الاعتبار لدى التعرض لبواعث ذلك القتل".
اعتراف السودان الرسمي بالقضية الفلسطينية ومساندته لها عبر تاريخه، واعتباره في حالة حرب معلنة مع إسرائيل، كما أشار القاضي، هو الذي دفع بالمنظمات الفدائية الفلسطينية إلى ضم الأراضي السودانية ضمن دائرة ممارسة نشاطاتها في معركتها ضد اسرائيل. فكانت الخطوة التي أقدمت عليها منظمة أيلول الأسود باحتلالها السفارة السعودية مطلع السبعينيات من القرن الماضي واغتيالها للقائمين بالأعمال الأمريكيين والسفير البلجيكي بالخرطوم، وهي تطالب بإطلاق سراح معتقلين وسجناء لدى إسرائيل.
على ذات الطريق وبذات النهج –مع اختلافات طفيفة في التفاصيل- سارت "الخلايا الثورية العربية". فقبل ستة أشهر من تنفيذ عملية تفجير فندق الأكروبول بدأت مجموعة مكونة من خمسة فلسطينيين الدخول إلى السودان تمهيدأ للبدء في مهمة ضرب المصالح الأمريكية والغربية بالسودان.
في خواتيم ديسمبر من العام 1987 دخل الفلسطيني إبراهيم علي فصاعي (الذي أوكلت إليه قيادة العملية) إلى الخرطوم بغرض جمع المعلومات والتحضير لاستقبال بقية الفدائيين، وما لبث أن لحق به بعد فترة قليلة رفيقه مصطفى عارف الرفاعي للمساعدة في الإعداد الجيد للعملية وانتقاء الأهداف التي يسهل ضربها في العاصمة الخرطوم، وكذلك استلام السلاح وإخفائه إلى حين ساعة الصفر. ثم تلا ذلك قدوم البقية تباعاً، وعلى فترات متباعدة خلال الستة أشهر، عبر مطار الخرطوم وهم عماد أحمد هويللو وحسن قاسم نمر وشريف عزت عطوي ليكتمل الفريق المنفذ للعملية، بعد إكتمال كل الخطوات الأولية وتحديد الأهداف واستلام الأسلحة والمتفجرات وتحديد ساعة الصفر.
الأكروبول .. الهدف السهل
على خلاف إحتلال السفارة السعودية واحتجاز من فيها ومن ثم التفاوض على المطالب، كما فعلت منظمة أيلول الأسود، آثرت الخلايا الثورية العربية استخدام طريقة أكثر فدائية وخاطفة باقتحام أهدافها وتفجيرها. هذا ما حصر دائرة تفكير قائد العملية إبراهيم فصاعي  ومساعده مصطفى الرفاعي في أهداف محددة ومراقبتها عن كثب للاختيار من بينها ما يحقق الأهداف المرجوة من العملية وهي ضرب المصالح الأمريكية والغربية في السودان والتي اعتبرتها اهداف مشروعة طالما ظلت تلك الدول تساند وتدعم دولة إسرائيل التي تحتل فلسطين وتنكل بالشعب الفلسطيني.
لاحظ فصاعي وتأكدت له المعلومات التي تشير إلى تواجد كثير من رعايا الدول الغربية في فندق الأكروبول بعد أن زاره في موقعه المنزوي في ذلك الشارع الجانبي وسط الخرطوم، وواصل مراقبته مساعده بعد وصوله الخرطوم، وفي ذات الوقت راقبا النادي السوداني الذي يقصده الرعايا الأجانب خاصة الانجليز.
اكتملت الخطة وطريقة تنفيذها على الموقعين (النادي السوداني وفندق الأوكروبول) في ذات التوقيت (ساعة الصفر). قبل أن تعطينا الشمس (ظهرها) وترحل، بل بعد أن مالت عن كبد السماء قليلاً وفي حوالي الرابعة مساءاً من يوم الأحد الموافق 15 مايو 1988، كانت عربة تحمل الفلسطينيين الخمسة، اثنين منهما نزلا في مكان قريب من موقع النادي السوداني، فيما عادت العربة إلى موقع فندق الأكروبول لينزل الشخص المكلف بتنفيذ العملية فيه.
فيما كنت أنا –في تلك الأثناء- في منتصف شارع القصر محاولاً العبور إلى الجانب الغربي منه حيث بعض الأصدقاء ينتظرونني في كافتيريا كوبا كابانا بفندق المريديان، كان الفلسطينيان الاثنان اقتحما النادي السوداني وهما يرتديان جلابيب سودانية، ويحملان بندقية كلاشنكوف ومسدسا وعدداً من القنابل اليديوية "القرنيت". وأخذا يطلقان النار عشوائياً ويلقيان القنابل اليدوية دون تركيز مما أدى لإصابة سوداني يعمل بالنادي برصاصة في صدره وفي ظهره، وأحدثا تلفاً في مباني وأثاث النادي دون أن يحققا هدفهما الأساسي من إغتيال بعض الشخصيات الغربية التي كانت تتواجد في النادي. وكان منظراً غريباً لا يحدث إلا في السودان، فعقب خروج الاثنين للشارع طاردهما بعض المارة وقبضوا عليهما وكانا قد تخلصا من السلاح.
لم أنتبه لهذا الأمر في الواقع وأنا أحاول عبور شارع القصر، لكن بالتزامن معه اهتزت قدماي وأنا في منتصف الشارع، وقبل أن أنهي العبور الكامل للناحية الأخرى، اهتزت قدماي إثر صوت إنفجار ضخم إرتجت له أركان الخرطوم جاء من ناحية الشمال. فعلى بعد عشرات الأمتار فقط يقع فندق الأكروبول الذي تطاير سقفه وتهدمت أركانه.
كان الأكروبول الهدف الثاني للخلايا الثورية العربية، حيث تجاوز الفلسطيني عماد أحمد هويللو إستقبال الفندق، وهو يرتدي جلابية سودانية أيضاً ويحمل في يده حقيبة بداخلها عبوة ناسفة تزن حوالي الخمس كيلو جرامات ويبرز من أحد جوانبها مضرب للتنس في محاولة ناجحة للتمويه. وصعد مباشرة إلى قاعة الطعام بالطابق الثاني. ولم يتردد بل فاجأ جميع الموجودين في القاعة وهو يلقي الحقيبة في منتصفها مما أدى لحدوث الانفجار الشديد الذي جعلني أنسى أصدقائي وأتجه صوب صوت الانفجار.
واحدة من المشاهد الغريبة بالنسبة لي كانت الحضور الأمريكي السريع، فبالرغم من ساعات الذروة تلك الأثناء، لم تستغرق عربات الرينجرز الضخمة والمظللة المرابطة قرب أو داخل السفارة الأمريكية في شارع علي عبداللطيف، سوى ثلاث دقائق لتكون بجواري في شارع القصر متجهة صوب مكان الانفجار وعلى متنها يظهر رجال المارينز.
وبذات الطريقة ألقي القبض على هويللو بعد أن تسبب فوراً في وفاة سبعة أشخاص هم:  كريستوفر جون رولف.. بريطاني الجنسية، في الخامسة والثلاثين، موظف بمنظمة الإغاثة بالأمم المتحدة، وكلير رولف.. بريطانية، في الحادية والثلاثين، موظفة بنفس المنظمة وزوجة الأول، والطفل توماس رولف.. بريطاني، في الثالثة من عمره، إبن الأولين، الطفلة لويس رولف.. بريطانية، في عامها الأول، إبنة الأولين،  سالي روكيت..بريطانية، في الثلاثين. إضافة للعميد أ. ح. إبراهيم عبد الحميد محمد، سوداني، في الثانية والأربعين، قائد ثان سلاح المهندسين بالقوات المسلحة السودانية، والخير خلف اله محمد عبد الله..سوداني، في الثلاثين، عامل بفندق الأكروبول.
كما تسبب الانفجار في إلحاق الأذى و الجراح بسبعة آخرين من جنسيات مختلفة (ثلاثة منهم سودانيين، وإثنين بريطانيين، وسويسري، وبنغلاديشي). وتسبب أيضاً في إحداث أضرار جسيمة بسقف وجدران القاعة وبنوافذها وأثاثها.
محاكمة واستئناف ومحكمة عليا
كان لابد من إجراءات قضائية في حق مرتكبي تلك الأحداث، حيث أدانت محكمة كبرى انعقدت بالخرطوم، برئاسة قاضي محكمة الإستئناف أحمد البشير محمد الهادي، المتهمين الخمسة (1) عماد أحمد هويللو (2) حسن قاسم نمر(3) شريف عزت عطوي (4) مصطفي عارف الرفاعي (5) إبراهيم على فصاعي أدانتهم، ضمن مواد أخرى تحت المواد 252 و 84/ 252 قانون العقوبات لسنة 1983م  "القتل غيلة والتحريض عليه" و أصدرت حكمها على خمستهم بالإعدام شنقاً حتى الموت.
ورفعت تلك المحكمة حكمها للمحكمة العليا للتأييد، فيما تقدمت –في نفس الوقت- هيئة الدفاع عن المتهمين باستئناف لذات المحكمة العليا التي وبعد التداول وأخذ رأي هيئة الدفاع ودفوعاتها في الاستئناف المقدم في الحسبان، رأت المحكمة العليا برئاسة القاضي حكيم الطيب قاضي المحكمة العليا وعضوية كل من القاضي مقبول الحاج محمد قاضي المحكمة العليا والقاضي عمر ميرغني البنا قاضي المحكمة العليا، رأت تعديل إدانة المتهم الأول من المادة 225 عقوبات للمادة 251 عقوبات، وبالتالي تعديل إدانة باقي المتهمين من المادتين 84/252 للمادتين 84/251 عقوبات. وقالت المحكمة في خلاصة الأمر "و لما كانت عقوبة الإعدام ليست هي العقوبة الوحيدة المنصوص عليها في المادة 251 "خلافاً لما الحال في المادة 252" فليس أمامنا سوى إعادة الإجراءات للمحكمة الكبرى –على ما في ذلك عنت بالغ على العديد من الجهات- لأخذ رأي أولياء دم القتلى في العفو أو الصلح أو الدية، ومن ثم توقيع العقوبة المناسبة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق