فقاعات زمن التصحر- الفصل الخامس

ايفا تبحث عن جذر ضارب في الأعماق، صارت تلمحه داخل مجذوب منذ وطئت قدماه دار جدها، وصارت تتمسك به في حذر لا ترغب في فقدانه. كانت تدرك بأنها قدره، خاصة بعد أن علمت صلته بزروق كان يشبهه، قوياً فارع الطول هل تتجاوز بعلاقتها به زروق ذلك الذي اصطفاها وزرع فيها روحاً جديدة افتقدتها منذ كانت طفلة ومع فقدانها لأبيها أمام ناظريها.




عندما فاجأته بأنه يرغب في استعبادها كما فعل أهله من قبل بأجدادها قصدت إلى استفزازه وهي تضحك في قرارة نفسها، رغم إدراكها بأنه امتلكها. لا مفر لها من الاستعباد ولكنه استعباد ذو طعم خاص تستلذ به، فأهل أمها يرمقونها بتلك النظرة ويذهبون الى أنّ دمها ملوث بجرثومة طالما آذتهم، أما أهل أبيها فهي مدركة أنها من وجهة نظرهم إبنة السوداء. روحها معلقة في المنطقة الوسطى، لا جنة ترضى بها ولا لهيب النار.

يوم ولادتها لم تصرخ ايفا وكأنما رئتيها ترفضان الهواء المتشبع بالرطوبة ورائحة البارود. يومان وأمها تعاني من اللبن الذي كاد أن يتخثر في ثدييها. رفضت أن يمتد فمها إلى ثديي أمها هذا ما روته لها، شتمتها في ذاك اليوم دون سبب واضح وهي تذكرها بتلك الواقعة. ولكن ايفا تذكر أزيز الطائرات المحلقة في السماء ودوي انفجارات يصم الأذنين من شدته، كانوا قد قرروا بداية حرق الغابة بأهاليها. جاءتها أمها تبكي في صوت عالٍ مملوء حرقة بعد سماعها نبأ اغتيال شقيقها ودخل خلفها جدها سريليو. كانت تتطلع إلى مداعبته والإرتماء في أحضانه كما اعتادت أن تفعل دوماً وتنتظر أن يقذف بها في الهواء مطلقاً آهته العميقة قائلاً " ليس بذنبك ". ولكنها لن تنسى تلك النظرة التي غمرها بها عندما دخل خلف أمها يجرجر حزناً سرعان ما اختفى من عينيه لحظة أن إلتقت عيونهما. نظرة مليئة بما لم تفهمه إلاّّ قريباً بعد تصاعد وعيها عتبات الزمن. لكنه لم يقل شيئاً مجرد أن أشاح ببصره عنها بصق على الأرض بين أسنان مصطكة من غضب ما.

لم يكن أبوها معني بها تلك الأيام لا يعود سوى آخر اليوم دون أن يقترب منها مداعباً، يكتفي بالنظر إليها. نظرات مليئة بالندم، كانت تحسها تخترق أعماقها ولا تمنعها روح الخمس سنوات من النفاذ.

يوم بلغ الجاك مولد ايفا نهار ذاك اليوم، تمالك أعصابه بالكاد إضطر إلى دفع "البشارة" إلى حامل النبأ وسط مطالبة وصيحات صحابه من التجار، مغلقاً متجره تحت إصرارهم ليقف إلى جوار زوجته في مثل هذا اليوم. بدخوله عليها رسم إبتسامة على وجهه مدارياً ما يعتريه من تفاعلات داخلية. نظر إلى المولودة وقرر إطلاق اسم ايفا عليها لا يدري لماذا، ولكنه اسم إنطلق من داخله فور رؤيتها.

ظهور زروق على مسرح حياة ايفا قلب أشياء كثيرة رأساً على عقب، وهي بعد تخطو ببطء على عتبات سلم الوعي لم يتجاوز بها العمر السادسة. بعدها استقرت في أعماقها رائحة أبيها والتصقت بأمها وبينهما زروق يقوي ذاك الالتصاق ويزيده تماسكاُ، حتى جدها صار أكثر حيوية وابتساماً من ذي قبل.

دخل زروق قلب سريليو من بوابة الجاك رغم علاقتهما الفاترة منذ اكتشافه حمل إبنته وزواجه منها. لكنها تلك الهالة الغير مرئية المحيطة بزروق المخترقة لمفاتيح الدواخل.

قال الأب سريليو لمجذوب:-

- لقد أسرني زروق منذ اللحظات الأولى ينبعث منه شيء غريب من غير الممكن تصوره، ولا تستطيع مقاومته شيء أشبه بحلم خرافي تعشق الدوران داخل متاهاته لينقطع فجأة دون أن تنقطع أنت عن الدوران.

وهو ما انتاب ايفا وسيطر عليها لحظة أن رأت مجذوب أول مرة بصحبة جدها وهما يخترقان بوابة الدار. عاد إليها الالتصاق والتماسك برغم أنها بدت مسلوبة الإرادة مستعبدة بلذة، وحالة من الخفقان والتحليق تجاوزت بها حالات الركون لقدر ما، إلى فوضى ارتدت بها إلى عوالم لطالما صنعتها على رمال الضفاف. لكنها عندما قبلت دعوته للخروج معها أول مرة لم ترتبك بقدر ما انتابتها نوازع توجس رغماً عنها، قافزة أمام ناظريها تلك النظرات التي تكسو عيني أبيها واخترقت حواجز طفولتها، ولعنات أمها التي سرعان ما استسلمت لقدرها لتتعايش مع الجاك دون مرارة.

عند إنجاز الرحلة الأولى كان زروق قد امتلك مفاتيح الأمر بين يديه، مدركاً مأساة الدم الممزوج بماء النهر، الدم الملوث بحبيبات الرمل ونخاع العظم. لذلك ما راودته نفسه على ارتكاب " حماقة ليس هذا بزمانها "، رغم إيمانه بأن الحل يكمن في التركيبة السحرية لهذا المزيج، وهو ما كان يردده وسط استغراب سريليو المندهش لأفكاره الغير متسقة مع ما يجري أمامه. وبرغم نظرة سريليو إلى الجاك في ذاك الوقت إلاّ انه همس في أذن زروق بجدية ورغبة "لماذا لا تتزوج يا صديقي؟؟". ضحك زروق وقتها مكتفياً بالنظر إليه بعينين مليئتين بالدهشة والغموض، وقذف بايفا الواقفة أمامه في الهواء ليلتقطها قبل سقوطها على الأرض ويأخذها في أحضانه.

ومن بين حنايا ذاك الحضن تسللت حزمة إطمئنان داخل روح ايفا ولكنه إطمئنان غير متكامل بل يغمره توتر وقلق، فالمدينة هي المدينة بخليط أناسها غير المتوازن وتناقضاتها تنسج خيوطاً أكثر تشابكاً لتزيد من تعقيد الأمور.

انتفض قلب ايفا يوم وقوفها أمام مدير المدرسة بجوار أمها وقفت تتراقص فرحاً ببداية عهد جديد وضعت أولى خطواتها في طريقه. نظر إليها ملياً وهو يهز رأسه والتفت إلى أمها قائلاً:-

- سيدة ميري تدركين الموقف ولكن للأب سريليو مكانته الخاصة.

قالت ميري في أدب:-

- شكراً.

- ستواجه بعض المعاناة في الإرسالية أرجو أن تتمكن من تجاوزها سريعاً.

- ولكنك موجود وستساعدها دون شك.

- نعم أنا موجود ولكنه عالم أطفال سيدتي.

وانطلقت ايفا داخل رواق المدرسة الإرسالية في يومها الأول متدفقة حيوية، تحلق بها أجنحة الاستكشاف في فضاءات غريبة. لم تلحظ ذاك النفور الذي اكتست به عيون أقرانها في يومها الأول من فرط سعادتها ودهشتها باختراق عوالم مجهولة تظللها روح طفولتها. أخذتها نشوة فرحتها وانتشلتها من الحواري حالمة بعالم مختلف بعيداً عنها. لا تدري لماذا يرفضونها هناك، ولكنها لطالما انتابها إحساس بالضيق وهي تحاول التسلل بحذر إلى عالم طفولتها دون جدوى، مطاردة لها لفظة بنت المندكورو حرمتها من اللعب وسط أطفال عائلة أمها وعموم أطفال أعلى النهر. بينما يتلاعب بها أطفال أهل أبيها دون اكتراث كبير لوجودها.

كانوا ثلاثة أطفال فقط من الحي المجاور مختلطة دماءهم بماء النهر يلعبون معها في حيوية ومودة، ومجموعات كبيرة منهم تعرفت عليهم برفقة زروق الذي يحتضنهم.

جدها الأب سريليو دائماً ما يداعبه مداعبة لاذعة :

- هل ترغب في التكفير عن سوءات أجدادك يا صديقي؟!

لم يكن التكفير عن سوءات أجداده فقط هو القائد لخطواته البادية الغرابة وسط هذا العالم المتناقضة أشياؤه. هناك شيء ما دائما ما يذكره بجاد الرب الراغب في الحرية وكاد يموت أثناء محاولته الهرب من العبودية بعد أن لاحت له قرية أهله من بعيد، كان جاد الرب يعرف ملامح طريقها حتى في الظلمة. مساعدة زروق له والقافلة تخترق عتمة تلك الغابة، رغم القمر المتربع عرش السماء، هي التي حالت دونه ورجال سلمان. إنها تلك الروح الممتلئة حرية هي التي تقوده، الروح التائقة الى رؤية الأشياء على طبيعتها.

فجعت ايفا عندما ترامى إلى مسامعها " بنت المندكورو " صباح اليوم التالي وهي منطلقة بمرحها الملازم لها منذ البارحة، ولم يفارقها حتى في أحلامها. وقتها فقط نزعت طفولتها عن روحها ونفذت داخلها روح أخرى ولكنها لا تحمل حقداً. هذا ما زرعه زروق بنجاح داخلها قبل أن تصيبها جرثومة حقد. سور المدرسة ومبانيها صارت كما الحواري، لحظتها قررت البقاء فيه بإصرار لا يناسب طفولتها.       

طقس الفجيعة رمى بأطرافه في ذات تاريخ ولادة أول طفل تجري في دمه مياه النهر. تجربة لها أبعادها يوم أُعلن أنَّ أشول حامل من محمود، جاء الإعلان بعد أن برزت بطنها منبئة عن جنين داخل رحمها. كان ذلك أثناء هجرة القوافل الأولى بعد تشكل مراكز التجارة، الشبيهة بمعسكرات الجيوش، التي أقامها التجار. وفي غفلة من الأهالي تسلل التجار ومساعدوهم إلى خلف الأسرَّة بعد انقطاعهم الطويل عن زوجاتهم بسبب الحروب والأمطار. واشترى التجار، إلى جانب سن الفيل وريش النعام، الصبية للعمل وإعادة البيع والفتيات، بل كان بعض السلاطين يهدون بناتهن للتجار الذين أخضعوهم بقوة السلاح والمال وذلك الخرز الملون وخواتم النحاس الصفراء .

نشر طقس الفجيعة ظلالاً أكثر كثافة بعد غزو رحم النهر، وبواخر تشق طريقها دون مقاومة. قوة الماكينات لا تقاوم والتيار واهن لا يقوى على شيء. وبسط القادمون الجدد أذرعهم على العمق والأطراف ليكون نصيب أعلى النهر تلك الأسلاك الشائكة. يومها أعلن حمل أشول أخرى من محمود آخر بعد مائة عام ولكن هذه المرة تجيء الأمور بشكل مختلف. المفتش ذو الشعر الأشقر امتطى فرسه الأبيض يتقدمه شاربه الاسكتلندي الأصل، مقتحماً دار أهل أشول مهدداً بعدم ولادة الطفل، واستدعي محمود إلى مركز الشرطة ليحقق معه المفتش بنفسه. وفي يوم ماطر بعد ثلاثة أيام غادر محمود محكوماً عليه بالسجن لمدة عام، عليه قضاءه أسفل النهر بين أهله. ليس هذا فقط بل أرفق المفتش تقريراً إلى رؤسائه ليصدر قراراً بالعمل بسياسة الأسلاك الشائكة ويفصل أهل أسفل النهر من أعلاه.

لم يرضِ الحكم أهل أشول فقط ولكنه لاقى ارتياحاً أسفل النهر، في دار أهل محمود الغاضبون على فعلته. ولكن قرار سياسة الأسلاك الشائكة الذي صاحب الحكم أقلق التجار وأصحاب المصالح هناك.

ولد الطفل رغماً عن محاولات إسقاطه تحت تهديد المفتش ولد بملامح مميزة متشبعة برائحة رطوبة الاستواء وطعم الرمل. يوم ولادته أطلقت عليه أمه اسم فْرِدْ ليبتسم المفتش مستهزئاً مطالباً بتعميده بعد أربعين يوماً، وشعر باهتزاز كرسيه وهو يتطلع إلى الطفل الصارخ في وجهه.

الفصل حينها خريف ارتجف النهر إلى حد الفيضان ليلقي بألسنته على الشاطئ ويتجاوزه لأعماق المدينة. ويد مالك العظم مرتجَّة مصابة بالهلع، وتلك النظرة الغير معتادة من طفل يوم ولادته فسّرها بالروح الشريرة. وضارب الرمل اختلطت عليه الخطوط، وتداخلت لتذوب في غياهب الاضطراب.

أشار سريليو بإبهامه منبهاً مجذوب إلى فْرِدْ - الفارع الطول مع انحناءة بادية للعيان - وهو يقول:

- هذا هو الشخص الذي تسبب في طردكم وإقامة الأسلاك الشائكة التي حفظتنا من حربكم طويلاً، كان من أعز أصدقاء عمك زروق.

- ولكن ألا تعتقد أن الحرب كان سببها الرئيسي هو تلك الأسلاك الشائكة؟!

- معك حق هو ما ردده زروق أيضاً ثم مستطرداً أنت تشبهه إلى حد بعيد في كل شيء.

- تدري يا عم

ومستدركاً:

- هل تسمح لي بمخاطبتك بيا عم سريليو؟!

- يسعدني ذلك وضاحكاً بلا استفزاز يا ابني.

- أتدري! ما دفعني للحماس لنقلي إلى أعلى النهر هو عمي زروق، وما دفعني لقبول المأمورية الأخيرة دون تردد هو رغبتي في لقائه بعد سماعي عن قصص اقرب للخرافة عنه من أشخاص عدة. ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل وصارت أي محاولة أخرى بلا جدوى.

أطلق الأب سريليو زفرة من أعماقه وفي عينيه بعض من أسى:

- لن تجده يا مجذوب، لقد ذاب.

- هل تعني بأنه مات؟

- لا لا لم يمت ولكنه ذاب في هذا العالم. تستطيع رؤيته في جميع مجاهل الغابة وفي السماء ليلاً ونهارا بسحبها وأمطارها وصفاءها وداخل أرواح أطفالنا وهذا ما يقلق أهل أعلى النهر الآن.

- هذه أسطورة أخرى يا عم سريليو.

- ليست أسطورة ولكن لعلك لمست هذا داخل روح ايفا، ليس فقط ايفا ولكن كل من عاشرهم زروق هنا، من أعلى النهر أو من أسفله ، أطفال ورجال ونساء. وأقول لك شيئاً، أيام الحرب الأولى كان الثوار يشاورونه ويعتبرون أن فيه دمهم وكذلك رجال الحكومة. هل تعلم أنه في قمة زمن المذابح كان يسير ما بين الغابة والمدينة وأحياناً يغادر دون أن يدري أحد إلى اسفل النهر وأخرى إلى أعالي أعلى النهر؟! هو بالنسبة للجانبين شك كبير وثقة لا يستغنون عنها، لذلك كان يسير على حد السكين المشرعة دوماً وتحت أزيز الرصاص دون خوف من إصابة طائشة.

- هل تقصد تشويقي واستفزاز رغبتي في لقائه؟

- لا، ولكن هذه الحقيقة. وكما قلت لك أنت تشبهه في كل شيء لكنك في النهاية عسكري عليك الالتزام بالأوامر إذا ما نشبت الحرب من جديد وإلاّ ستعاني كثيراً.

انطلق مجذوب بحثاً عن بعد أكثر عمقاً في عيني ايفا لا يدري أين يكمن سر عمه؟! ولكن رائحته فائحة من دواخلها، لا يكاد يمسك بها، فهي ملتصقة بها. كلما استنشق إبطها اشتم رائحة زروق، فصار كثيراً ما يغرق فيه.

لكنها يوم استقبلته بعد عودته من أول مأمورية له، رآها نافذة مشرعة على عالمها دون سواه أو هو عالم زروق وعيناها منطلقتان تساؤلاً حول جدوى الحرب. كانت ايفا تدهشه وهي تقاوم قهرها، بل تصهره إلى درجة الاحتراق بين يديه. لا ليست حرب هذه، هي قذارة تفوح رائحتها رائحة أشبه بتلك الفائحة من المستنقعات لطالما صرخت في وجهه.

- أنا المعنية بتلك الحرب ليس أبي المذبوح تحت ضوء القمر ولا أمي الميتة في ملكوت أعالي النهر، نعم أنا هي المعنية. تريدون قتلي لأن دمي مخلوط بماء النهر، لكنكم لا تدركون أن في هذا الدم يكمن الخلود. أنت تريد قتلي، جدي يريد قتلي، أمي تريد قتلي وحتى أبي المذبوح يريد قتلي، قالها بعينيه والسكين مشرعة على عنقه. لم أقتله لكنه يحملني ذنب قتله. لكنكم جميعاً لن تنالوا هذا لن تتمكنوا من ذلك، فالحقيقة تجاوزت كل قدراتكم على قلب الواقع. كلكم إلى زوال وستبقى الحقيقة الخالدة رغم مرارتها في حلوقكم، تذوقها مريرٌ بطعم الحنظل. فقط زروق هو من يدرك السر الأعظم، لذلك هو خالد فيكم وفيهم وحتى فينا نحن الموعودون. لماذا تقاتل أهل أمي؟ ولماذا هم يقاتلونكم؟ لا تدري طبعاً، أو هي أسباب مبهمة للطرفين ولكن سيستمر القتال. سيستمر إذا ما بقي الدم المخلوط بماء النهر هو الأضعف وسينتهي بقوته وسيطرته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق