هل تشبه الليلة البارحة؟!

أمير بابكر عبدالله
أن يعيد التاريخ نفسه تلك مأساة وأن يفعلها ثانية فتلك ملهاة، لكن هذا عهدنا بتاريخ بلادنا وهو يراوح بين المأساة والملهاة ضمن جملة الدوائر الشريرة التي تمسك بخناق السودان ولا تكاد تفلته. لن نذهب بعيداً بحثاً في تاريخ موغل في القدم، فالأحداث التي شهدتها العشر سنوات الماضية كافية لتضعنا في قلب الحقيقة دون جهد. القارئ والمتابع والمراقب لما حدث في مفاوضات السلام بين المؤتمر الوطني الحزب الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان التي رعتها منظمة الإيقاد والتي وصلت نهاياتها بالتوقيع على اتفاق السلام (الشامل) في التاسع من يناير 2005 بينهما، لا يجد صعوبة كبيرة في قراءة الواقع الماثل الآن.
قبل عقد من الزمان أو يزيد قليلاً جرت مفاوضات مشاكوس الضاحية الكينية التي اشتهرت عقب توافد المفاوضين والوسطاء إليها للبحث في قضية الحرب في السودان، بعد ضغط مكثف من قبل المجتمع الدولي على أطراف النزاع من أجل التوصل إلى تسوية سلمية عبر منبر إيقاد وإعلانه الشهير. وسبقتها قبل عدة أشهر نجاحات أول مبعوث أمريكي في توصل أطراف القتال إلى وقف إطلاق نار في جبال النوبة وفتح الممرات لإغاثة ضحايا الحرب هناك.
بدأت مفاوضات مشاكوس وسط مباركة القوى السياسية المعارضة باعتبارها يمكن أن تفضي إلى تضميد جرح الوطن النازف ووقف سيل دماء أبنائه بفعل أبنائه، بعد تعنت النظام لسنوات مراهناً على قدراته العسكرية في حسم المعركة بدلاً عن الحل السياسي لقضايا هي في الأصل سياسية بالدرجة الأولى. استبشرت القوى المعارضة خيراً في أن هذا الطريق سيقود إلى السلام والوحدة، وطالبت بتوسعة مظلة مفاوضات الإيقاد لتصبح منبراً يضم كافة القوى السياسية ومناقشة قضايا الوطن كافة في سبيل الوصول إلى اتفاق سلام شامل.
لكن أيادي خفية وأخرى واضحة للعيان كانت تريد تطويق المفاوضات، التي جرى التمهيد لها وبدأت فعلاً، ووضعها في خانة جنوب وشمال، ونجحت في ذلك بدرجة ممتاز ومخرجاتها تحدث عن هذا النجاح دون شك. نجحت في إقصاء كل الأطراف الأخرى الداخلية المعنية بعملية السلام في السودان سواء كانت تلك الأطراف قوى شمالية أو جنوبية حسب التصنيف السياسي آنذاك. وصادف ذلك هوى لدى الطرفين الرئيسيين في أن تظل القضية محصورة في مربع شمال جنوب، وظلا يعملان عليه عملياً ببذل وعود لا يعتد بها مثلما فعل الراحل د. جون قرنق عندما وعد قيادات التجمع الوطني الديمقراطي قبل مغادرته لاجتماع لهيئة قادة التجمع بأنه يحمل قضايا التجمع ومخرجات اجتماعاته في حقيبته لعرضها على طاولة المفاوضات وأنه لا يمثل الحركة الشعبية في هذا الأمر بل كل التجمع. أما المؤتمر الوطني الحاكم فكان يعمل وفقاً لتكتيك تجزئة الحلول وبالتالي رافضاً، ولا زال، لأي منبر يمكن أن يحمل رأي القوى المعارضة مجتمعة.
لن يكابر أحد في أن الحركة الشعبية لتحرير السودان كانت تعمل وقتها منطلقة من ثلاث منصات، منصة الوحدة ومنصة الكونفيدرالية ومنصة الانفصال، لكن تطويق المفاوضات وحصارها حول قضية الحرب، تحت دعاوى وقفها بأي ثمن، وبالتالي شمال جنوب هو ما قاد في النهاية إلى رضوخ الحركة الشعبية وفتح شهيتها الفترة الانتقالية التي ستشارك فيها المؤتمر الوطني السلطة في عقر داره بأي نسبة كانت وتنفرد هي بالجنوب، وهو ما خرج به اتفاق نيفاشا الذي لم يدع المجال لصيغة ثالثة. ومثل استخدامات مناهج البحث في الوصول إلى نتائج باستخدام الكل للتحقق من الجزء أو العكس، فكانت قضايا السودان الكلية مطروحة على طاولة مشاكوس ومن بعدها نيفاشا والعين على الجزء، ونجح في الختام منهج التجزئة وانفصل الجنوب وتجزأ السودان.
الآن انطلقت المفاوضات، بين المؤتمر الوطني الحزب الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، من ذات المربع. وتأتي على قائمة أجندة التفاوض المسألة الإنسانية وفتح ممرات للمساعدات الإنسانية للمواطنين المتواجدين في مناطق تسيطر عليها الحركة الشعبية وبالذات في جبال النوبة، ذات المنظر قبل عقد من الزمان. فقط هذه المرة جاء الضغط مباشر من مجلس الأمن بقراره رقم 2046 ومن خلال مظلة أكبر هي الاتحاد الأفريقي ولجنة الحكماء.
الحركة الشعبية –شمال قالت وعبر تصريحات لرئيس وفدها الأستاذ ياسر عرمان، عقب انتهاء اول جولة مفاوضات مباشرة بينها والمؤتمر الوطني في أديس أبابا دون التوصل لشيء، "نريد ان نقول بوضوح لقد انتهى عهد الحلول الجزئية وبدأ عهد المواطنه بلا تمييز ونحن مقبلون على فجر جديد واذا اعتقد المؤتمر الوطني انه يمكن ان ينفرد بالحركة الشعبية ويدق اسفين بينها وبين الجبهة الثورية برفضه للحل الوطني الشامل وبرفضه لعملية دستورية بمشاركة الجميع فان الحل الجزئي ليس في قاموسنا". هو ذات الطرح الذي صدره الراحل قرنق لأعضاء هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي، وحمل حقيبته ليفاوض في نيفاشا ويصل لاتفاق مع المؤتمر الوطني باسم الحركة الشعبية.
في مفاوضات نيفاشا حوصرت القضية السودانية في محور شمال جنوب، ولم توف الحركة الشعبية بعهدها، والآن في أديس أبابا سيتم التركيز على المنطقتين وقضاياهما هذا من وجهة نظر المؤتمر الوطني على الأقل، في الوقت الذي رفع فيه الأستاذ ياسر عرمان سقف مطالبه التفاوضية برفضه عهد الحلول الجزئية. كلاهما له الحق في تحديد سقف مطالبه والفيصل في النهاية لطاولة المفاوضات وقدرة كل طرف على المناورة في بلوغ غاياته.
الحقيقة والواقع يقولان أن الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ذهبت لتفاوض بإسمها مما يجعلها غير مؤهلة للتفاوض باسم كل فصائل المعارضة سواء في الجبهة الثورية أو تحالف المعارضة السياسية مهما ادعت. وهذا ما حدث للحركة الشعبية الأم بكل قدراتها والسياق الزماني الذي خاضت فيه المفاوضات.
الجولة الأولى لمفاوضات أديس أبابا فشلت كما يقولون، ولكنها في الحقيقة لم تفشل، فهي المرة الأولى التي يجلس فيها الطرفان وجهاً لوجه بعد الضغط الدولي، وطرح كل طرف سقف مطالبه على الطاولة، والآن يأتي دور الوسطاء في تقريب وجهات النظر. تقريب وجهات النظر يتطلب بالضرورة تنازل من كل طرف والوصول لنقطة وسطى تنطلق منها المفاوضات، وهذا بالضرورة يعني أن تتنازل الحركة الشعبية – شمال عن سقف مطالبها إلى سقف آخر أدنى من سابقه ناقشته أصلاً داخل أجهزتها وإلا ستكون غير مدركة لما هي مقدمة عليه إن لم تفعل ذلك. ذات المنظر في نيفاشا وخلال الفترة الانتقالية.
صاحبت مشاكوس عمليات عسكرية مكثفة من جانب الحركة الشعبية والجيش الشعبي في جبهات متعددة لتحقيق مكاسب على طاولة المفاوضات، وخاضت معارك منفردة أو تحت مظلة القيادة العسكرية للتجمع الوطني الديمقراطي التي ترأسها في شرق السودان، وهو ما فعله النظام أيضاً. لعل أبرز تلك العمليات العسكرية هي دخول الجيش الشعبي لمدينة توريت لأول مرة ليحمل وفد المؤتمر الوطني حقائبه ويرحل عن نيفاشا كدلالة لانهيار المفاوضات وضرورة تنفيذ اتفاق لوقف العدائيات، ولا يعود إلا بعد عودة القوات المسلحة السودانية إليها مرة أخرى والتوقيع على اتفاق لوقف العدائيات أثناء سير المفاوضات.
الآن ذات المشهد يتكرر في التصعيد العسكري من الجانب الحكومي أو من جانب الحركة الشعبية منفردة أو تحت مظلة تحالف مع آخرين (الجبهة الثورية)، حدث التصعيد بدخول قوات الحركة الشعبية وحلفاءها شمال كردفان متزامناً مع انطلاق المفاوضات لإحداث تحول على طاولتها، ورغم أنه منهج أثبت فشله في السابق كتكتيك مؤقت ينتهي بانتهاء غاياته الفورية إلا أنه تكرر هنا مرة أخرى. في خاتمة المفاوضات سيتكرر ذات المشهد إذ سيصل الطرفان إلى تسوية الملف الأمني والعسكري فيما يخص قوات الجيش الشعبي ووضعها ولن تستطيع الحركة الشعبية تسوية وضع أي قوات أخرى اطرافها غائبة أو مغيبة عن طاولة المفاوضات.
ما حدث للتجمع الوطني الديمقراطي المتحالف مع الحركة الشعبية الأم أن المؤتمر الوطني وبعد أن وقع اتفاقه مع الأخيرة قرر الجلوس للتفاوض معه وهو ما حاولت الحركة الشعبية الأم أن تنسبه لنفسها بإعلانها الضغط على المؤتمر الوطني للجلوس مع حلفائها السابقين للتوصل لتسوية سياسية، وكانت هي ضمنت نصيبها من السلطة والثروة وحددت مع المؤتمر الوطني نصيب بقية فصائل المعارضة في السلطة قبل أن تقول تلك الفصائل رأيها حتى.
مآلات التفاوض الجارية الآن والتي ستستمر لفترة قد تطول أو تقصر لا توحي بأن هناك تبدل أو تغير حتى في التصريحات من الجانبين، سيعلن من أديس أبابا اتفاق بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال وستعنون ديباجته باسم اتفاق بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وليس بين الحكومة والجبهة الثورية او غيرها. وهذه الثنائية لن تتيح للاستاذ ياسر عرمان أن يتمسك بموقفه التفاوضي في أعلى مستوياته، لأن المؤتمر الوطني سيهمس في أذنيه "دعنا نحسم مشكلاتنا في المنطقتين ثم نجلس مع بقية القوى لنضع حلاً سياسياً شاملاً" وسيوافق لأن على المفاوضات أن تستمر وتخرج بنتائج أهمها وقف الحرب ورفع المعاناة عن كاهل أهلنا في جبال النوبة والنيل الأزرق، أما دارفور فلها منابر أخرى للتفاوض، وستنتظر قوى المعارضة السياسية وتحالفها أن تنتهي هذه الدايلما ليتفرغ لها المؤتمر الوطني للجلوس معها في طاولة مفاوضات منفصلة.
هل نردد (ما أشبه الليلة بالبارحة؟!) أم أن الجماهير ستحدث تحولاً وتقطع الطريق أمام مفاوضات ثنائية نتائجها حلول جزئية لتفرض على كل الأطراف الجلوس في طاولة موحدة للوصول إلى حلول شاملة لكافة قضايا السودان المستفحلة؟
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق