أمير بابكر عبدالله
حركت الاحتفائية بالذكرى الأولى لرحيل
المناضل الاستاذ التجاني الطيب، على محدوديتها، بركة النشاط المعارض الساكنة.
واستطاعت اللجنة القومية المكلفة بالتحضير لتلك الاحتفائية أن تنجز فعاليتين ذات
ارتباط وثيق بنشاط الاستاذ التجاني، وظلتا شغله الشاغل أثناء مسيرة حياته. ارتبطت
الفعالية الأولى باليوم العالمي لحرية الصحافة، وكانت ورشة الحريات الصحفية مناسبة
للاحتفاء برجل قدم كل عمره للصحافة الملتزمة، ووضع بصمته المميزة على خارطتها
واقترن عمله الحزبي ونشاطه الاجتماعي بها، مناضلاً من أجل حريتها ضمن الحريات
العامة المسلوبة طوال عهود ولا زالت.
الفعالية الثانية، وهي ذات صلة وثيقة
بمهام الراحل الحزبية، ظل ممسكاً بملفها يديره بكفاءة ورؤى واضحة تتعاطى مع الواقع
والراهن السياسي، متسقة مع حقيقة التعدد والتنوع في السودان، وتستشرف مستقبل الوطن
الذي لن يكون إلا من خلال خلق أكبر قدر من الالتفاف حول القضايا الرئيسية. وجاءت
الفعالية الثانية عن التحالفات السياسية مرتكزة على ورقة دسمة، أعدها وقدمها
الدكتور الشفيع خضر، أبانت رؤى الحزب الشيوعي حول مسألة التحالفات السياسية،
وتداول حولها المعقبون احتفاءاً بالراحل التجاني الطيب وإسهاماته التي لم تنقطع
حتى رحيله في هذا المجال. وتؤكد هذه الفعالية أن الإنسان يرحل عن هذه الدنيا لكن
بصماته ذات الأثر لن تنتهي، وأن العظماء يظلون يسهمون ويواصلون العطاء حتى بعد
رحيلهم عن هذه الفانية.
التحالفات ارتبطت بنشوء الحركة السياسية
ما قبل الاستقلال، وانتظمت مشكلةً ملامح الحراك السياسي منذ ذلك الوقت. وهي إن
جاءت في ذلك الأوان لانجاز مشروع الدولة السودانية، فقد انتقلت إلى مشارف
الاستقلال دون أن تنجز أهم مسؤلياتها الوطنية بوضع الأساس للدولة الرضائية المتفق
عليها، أي وضع دستور دائم معبر عن وضع وحقيقة السودان. وتظل مسألة الدستور الدائم
هي التي تحدد شكل الدولة التي تسع الجميع، وطالما لم ينجز فإن مهام التحالفات
السياسية ستظل دائرة حول أولويات مختلة، ومرتبطة بظروفها الآنية وشروط لحظتها.
في وضع مقارن مع دولة مثل الهند، وقد
استقلت قبل السودان بسنوات، كانت اولى مهام الأحزاب السياسية هو إنجاز مشروع
الدستور الدائم للهند الذي وضعها على الطريق الصحيح في طريق البناء السياسي
الديمقراطي، لم يستغرق الأمر هناك منذ 1947 سنة الاستقلال سوى فترة انعقاد الجمعية
التأسيسية لتجيز الدستور الدائم الذي نظم علاقات الدولة ونظام الحكم فيها، لتأتي
التحالفات السياسية لإنجاز برامج تنموية واجتماعية. وهو الأمر الذي لم توليه
الأحزاب عنايتها الكافية وظل في مؤخرة أولوياتها طالما هناك دستور مؤقت يمكن أن
تسير به السلطة الدولة حسب مقتضيات الحال. هذا يعني أن التطور السياسي في السودان
لا زال يعاني أزمة تحديد هوية الدولة مما يجعل كل التحالفات السياسية ومهامها
وأهدافها تدور أسفل السقف المطلوب، فلا زلنا نتحدث ونناضل من أجل ضرورة بناء دولة
المؤسسات وفصل السلطات، ولا زال الصراع دائر عن هويتها وهل هي دولة مواطنة تستوعب
كل التعدد والتنوع في السودان، أم دولة دينية، جمهورية رئاسية أم برلمانية، ووسط
هذا الجدل تتحكم فينا الأحزاب الشمولية والدكتاتوريات لما يقارب النصف قرن، وتاريخ
استقلالنا يزيد عن هذا النصف قليلاً.
الموضوع الآخر في مسألة التحالفات
السياسية هو طبيعة الأحزاب ومنطلقاتها الفكرية وبرامجها السياسية. واحدة من
الظواهر التي تكشف عن خلل واضح في التطور الحزبي في السودان منذ الاستقلال هو
التراجع المستمر للأداء الحزبي وتدني سقف الديمقراطية داخلها، وهو أمر له أسبابه
الذاتية المتعلقة بالأحزاب نفسها وكذلك أسبابه الموضوعية الخارجة عن سيطرتها،
وربما الإشارة السابقة لعمر الأنظمة الشمولية والدكتاتوريات يعبر عن وجه أصيل
لأوجه قصور الأداء الحزبي.
التراجع وتدني سقف الديمقراطية يبرز في
كثرة الانقسامات والانشقاقات الحزبية في الساحة السياسية السودانية، ومن الملفت
للانتباه أن المجموعات المنشقة والمنقسمة على نفسها تعود لتتحالف في اطار أوسع مع
بعضها ضمن آخرين، ولا يحتاج الأمر لكثير أمثلة فهي بادية للعيان. هذه الظاهرة لا
تعبر سوى عن أزمة عميقة في مجمل العمل السياسي، فالطبيعي أن تقارب التحالفات بين
أحزاب وقوى سياسية لها اختلافاتها البينة والواضحة فكرياً وسياسياً لانجاز مشروع
آني محدد وفقاً لبرنامج حد ادنى، ومن الطبيعي أن تفرز هذه التحالفات برامج حد أعلى
يمكن أن يتجاوز التحالف ليصل إلى الوحدة الكاملة، لكن ما يحدث في السودان غير ذلك.
تنقسم الأحزاب على نفسها ثم يعود بعضها ليتحالف مع ذات البعض تحت برنامج الحد
الأدنى، وهذ لا يعني سوى تدنى سقف الأهداف والمهام وبالتالي تدني حتى برنامج الحد
الأدنى.
نأمل أن لا يكون ختام فعاليات الاحتفاء
بذكرى الراحل التجاني الطيب المقرر له الأحد القادم بقاعة الصداقة هو نهاية لنشاط
يجب أن يتسع، وإنما نقطة انطلاق لمشروع بناء الدولة السودانية عبر تحالف عريض، وأن
تلملم مكونات التحالف أطرافها الشاردة حتى يأتي تحالف بحجم تحديات الوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق