ملامح من المجتمع السوداني- كتاب محتشد بالتنوع

أمير بابكر عبدالله
كتاب كامل الدسم، لا يستحق القراءة فحسب، بل الصحبة الدائمة. أشبه بلوحة او هو لوحة رسمها كاتب قدير إمتلك ناصية الكتابة لينحت تلك الملامح على جدران حقبة من التاريخ السياسي والاجتماعي للسودان. إنه كتاب المرحوم الأستاذ حسن نجيلة، كل مرة أقرأه فيها اكتشف مدى حاجتي لقراءة أخرى بعين وعقل آخرين.
الصورة: غلاف الكتاب
إنه بقع من الضوء تضيء أو بالأحرى شعلة من ضوء (تجهر) النفس وتغسلها، هذا غير المتعة الكبيرة التي لا تضاهيها متعة، فرغم تعدد موضوعاته يقرأ بنفس واحد، فإن بدأته وأنت في حالة شهيق فلا مناص من أن تكمله لتعود إلى وضع الزفير، أو هكذا هي الدهشة قيما يبدو لي.
غض النظر عن الرؤى السياسية باختلافاتها واتفاقاتها، وتباين التقديرات والتحليل لتلك الفترة، لفت نظري ما رواه الراوي عن سفر أول وفد سوداني يزور انجلترا عقب انتصار الحلفاء ونهاية الحرب العالمية الأولى بهزيمة دول المحور. لم أهتم لتلك الدلالات السياسية وصراع الإنجليز والمصريين من أجل كسب ود السودانيين، وهو صراع ما زالت تداعياته تحكمنا حتى اليوم، ولا ذاك الاحتفاء الذي وجده الوفد في انجلترا الفرحة بانتصارها على ألمانيا.
احتفت الجماهير السودانية بسفر الوفد، وامتلأت محطة السكة الحديد عن بكرة أبيها وفاض خارجها بالمودعين للوفد المكون من السادة: السيد علي الميرغني والشريف يوسف الهندي والسيد عبد الرحمن المهدي يمثلون قمة الزعامات الدينية في البلد، ومثل مجلس العلماء في الوفد الشيخ الطيب أحمد هاشم مفتي السودان والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم رئيس مجلس العلماء، وكان تمثيل أقاليم السودان المختلفة واضحاً في الوفد، وكأنما هو اعتراف مبكر بما سيؤول إليه حال السودان الآن.
مثل السيد اسماعيل الأزهري (الجد) مديرية دارفور وكان قاضيها الشرعي وقتذاك، أما كردفان فمثلها في الوفد ناظر الكبابيش الشيخ علي التوم، أما شرق السودان فقد جاء منه ناظر الهدندوة الشيخ ابراهيم موسى ومن الشمال مثل السودانيين في الوفد ناظر الجعليين الشيخ ابراهيم محمد فرح ومن البطانة عوض الكريم عبدالله وكيل ناظر الشكرية. أما تمثيل الخريجين فقد جاء على هامش الوفد وبمحض (الحاجة) إذ سافر مع الوفد الاستاذ اسماعيل الأزهري (الحفيد ورئيس السودان فيما بعد) كمترجم لجده، والاستاذ محمد حاج الأمين أيضاً لذات المهمة.
ملامح سودان المستقبل
يبدو أن ملامح سودان المستقبل بدأت ترتسم منذ ذلك الوقت بشكل أكثر وضوحاً، وبدأت تتجلى في إطار الصراع بعد حين من ذلك التاريخ (1919) بين الزعماء التقليديين والدينيين من جهة وداعة الحداثة والتجديد من الجهة الأخرى. أهم الملاحظات في ذلك الوفد هو الإزاحة القسرية للجنوب من تشكيلته وكذلك غياب جبال النوبة من بين أعضاءه بحسب التقسيم الإداري للسودان آنذاك وفيما بعد، وهو أمر لعب فيه المستعمر دوراً أساسياً باتخاذه سياسة المناطق المقفولة للجنوب وجبال النوبة
وكما ذكر الاستاذ حسن نجيلة في مقدمة كتابه "ملامح من المجتمع السوداني" إنه يضع بعض اللوحات من هنا وهناك ربما تكون عوناً لمن يقومون بالدراسات الأكاديمية لتاريخنا المعاصر في فتراته المختلفة، وختمها بأنه تاريخ حافل حاشد بكل ما يستحق الكتابة.
فعلاً تلك لوحات تاريخية انتقاها الاستاذ حسن نجيلة (عليه الرحمة) في سفره "ملامح من المجتمع السوداني"، مازجت بين السياسي والاجتماعي محمولة بين أجنحة الأدب والشعر والحكي. وتلك لوحة مزدوجة تقارب بين ظاهرة اجتماعية يبدو إنها ضاربة في القدم وتحول اجتماعي بدأت بذرته التي رسمها حسن نجيلة في ذكرياته.
قصة الفتاة الأمدرمانية
بأسلوبه البديع تناول نجيلة قصة الفتاة الأمدرمانية التي انتحرت بأن ألقت بنفسها في النيل، بسبب التحرش الجنسي. والحكاية المعروفة الآن باسم تحرش الأقارب الجنسي وهو ظاهرة شائعة في المجتمعات العربية، ويعاني منها الذكور والإناث معاً، في تلك المجتمعات المنغلقة على نفسها. تلك الفتاة حاول قريب لها غوايتها ومراودتها عن نفسها لفترة طويلة، بحكم رابطة الدم القريبة التي تتيح له التواجد في المنزل ولقائها على انفراد لتتنازعها حالة نفسية بين السقوط فريسة الغواية والمحافظة على عفتها وطهارتها، وكما كتب الاستاذ حسن نجيلة بلغة أدبية راقية "فاحتواها النهر وهي في ريق العمر وروعة الجمال"
ووقف الشاعر أحمد محمد صالح ليلقي قصيدته "شهيدة العفاف" في نادي الخريجين:
عرفت في سالف الأيام جارية البدر يخجل حسناً ان يجاريها
خد أسيل وطرف ناعس غنج وقامة تزدري بالبان تشبيها
ومبسم نظم الدر النضيد به فسبح العاشقون الله في فيها
وعفة رضعتها منذ نشأتها وشيدت بين أهليها مبانيها
حتى إذا اكتملت منها محاسنها وأصبحت فتنة في عين رائها
سعى إليها فتى ضل الشباب به وظن ان ثراء المال يغريها
تلك لوحة حين مقاربتها بتحول اجتماعي غرست بذرته منذ ذاك الزمان، تكشف مدى الصراع بين التخلف والحداثة والرغبة في العلم والمعرفة، وهو صراع ما زال مسترماً حتى اليوم. فقد شهدت مدرسة أمدرمان الأميرية في مساء الخميس 9 ديسمبر عام 1920 مسرحية مثلها طلبة كلية غردون تدور فكرتها حول تعليم المرأة. تلك المسرحية التي حضرها جمهور كبير من بينهم "مس إيفانس" التي جاءت خصيصاً من مصر لتتولى الإشراف على إعداد تعليم المرأة في السودان.
وصف الاستاذ حسن نجيلة موقف المجتمع بأنه انقسم إلى فريقين "فريق يدعو إلى هذه البدعة الجديدة (تعليم البنات) وفريق آخر يرى ن هذا النشاط سيفضي إلى فساد الحياة الاجتماعية، ويرى إن تعليم المرأة خد استعمارية لكي تخرج على تقاليد الدين والتقاليد الكريمة".
تعليم المرأة
وما بين المسرح والشعر جاءت نصرة تعليم المرأة لتضع بذرة التحول الاجتماعي والاعتراف بأهمية تعليم ودور المرأة في المجتمع، فها هو الشاعر عبد الله عمر البنا يصعد إلى المسرح ليلقي قصيدته التي يناصر فيها المرأة ويرسم فيها صورة المرأة الجاهلة والمراة المتعلمة ويقول فيها:
واهجر سبيل الجاهلات فإنما بالجهل تمتهن البلاد وتخرب
هن اللواتي جارهن مروع مما يقلن وقولهن مكذب
هن اللواتي زوجهن مهدد بالفقر ينفق ماله أو ينهب
هن اللواتي دينهن مضيع هن اللواتي طفلهن مترب
ثم يأتي لصورة المرأة المتعلمة:
وعليك بالمتعلمات فإنما ترجو ملائكة الجمال وتخطب
القانتات العابدات السائحات المستفز كمالهن المعجب
حتى يصل إلى:
ويرى بهن الطفل في أطواره ما يرتقي بخلاله ويهذب
يغذونه بالعلم قبل فطامه والعلم أقرب للعلاء وأجلب
لا أجد ما أقول أكثر مما قاله الاستاذ حسن نجيلة "هكذا الحياة صراع بين قديم وجديد.. ولا يلبث الجديد حتى يصير قديماً منهزماً في صراعه مع الجديد وهكذا دواليك". فقبل تلك الوقائع بأعوام أنشأ الشيخ بابكر بدري أول مدرسة للبنات في رفاعة وليس في الخرطوم، رغم ذلك جاءه التصديق ا من وزارة المعارف لإنشائه ومكتوب عليه "عليك أن تفتح المدرسة في بيتك الخاص وباسمك الخاص".
واحدة من بقع الضو في الكتاب الدسم للاستاذ حسن نجيلة "ملامح من المجتمع السوداني"، كانت في ليلة الحفل المعتاد الذي أعده نادي الخريجين لاستقبال العام الهجري الجديد سنة 1341هـ. ولعلها بقعة تكشف جوهر السودانيين وعلاقاتهم، والسودانيون هنا بمختلف أعراقهم ومعتقداتهم، وتكشف كيف تراجعنا خطوات إلى الوراء بفضل الإنكفاء والتشدد وصرنا لا نحتمل بعضنا البعض.
مسيحي يحتفي بالعام الهجري
تلك الليلة من ذاك التاريخ كانت بحق سودانية، حيث قدم سكرتير النادي تلك الدورة (إبراهيم اسرائيلي)، شاعر الليلة.. ليلة الاحتفاء بهجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، وما لتلك الليلة من معاني لدى المسلمين ولأثرها عموماً في التاريخ الإنساني. قدم إسرائيلي الشاب (صالح بطرس) وهو مسيحي شاعراً لليلة الاحتفاء بالعام الهجري الجديد، وقد كان موظفاً في مصلحة البريد ومهتماً ومولعاً بالشعر. وما أن صعد إلى المنصة حتى ألقى قصيدته التي افتتحها ب:
يا من رأى الهلال وقد بدا يهدي لنا عاماً أغر مشهرا
أكرم بطلعته وبهجة نوره ذ بشرتنا أن سنحمد مخبرا
هذا الشاب المسيحي الشاعر الذي خاطب الحفل بلسان عربي مبين محتفياً بهجرة المصطفى، لم يخالف طبيعته التي نشأ عليها، فهو سوداني ينفعل بما حوله ويحتفي بما يحتفي به الجميع مثلما هم يحتفون به في مناسباته، لا بل ويقدمونه في مناسباتهم الدينية، هكذا كان السودان وهكذا نريد له أن يكون. من مفارقات العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في بعض دول الجوار، تجد المطاعم والجزارات تفرق بينهما، إذا تصدمك لافتة مكتوب عليها (جزارة مسلمين) أو (مطعم مسيحيين)، ونحن هنا لا نفرق بين هذا وذاك فجميعهم أبناء هذا الوطن اولاً، ثم إن الدين لا يفرق بين البشر ثانياً.
وهذا لا يجعلنا نستغرب ونغرق في دهشتنا، إذا غضب الشاعر (صالح بطرس) وهو يرى مسجد امدرمان الكبير وقد تقاعس المسلمون عن إكمال بنائه لفترة طويلة، والتبرعات تسير بشكل بطيء. لم يكتف صالح بطرس بالفرجة ويذهب إلى كنيسته فرحاً بل ثار منفعلاً ليرسل قصيدة طويلة إلى جريدة الحضارة ينعي فيها على المسلمين عدم اهتمامهم وتقاعسهم عن تلك المسؤولية.
ويقول حسن نجيلة "وقد كان لهذه القصيدة أثر كبير في تحمس الناس لإكمال بناء المسجد"، إذ يقول فيها:
يا مسجداً مطلت بنوه بعهده حتى غدا وهو الحسير المعدم
بدأوك جوداً بالصنيع واحجموا ما كان أولى أن ذاك يتمم
بينا تشيّد إذ وقفت كأنك الطلل المحيل عفاه هام مهرم
عريان رأسك لا تزال تضج من حر ومن قر لوجهك يلطم.
اتفق مع أستاذنا نجيلة واترحم معه على ذلك الشاعر الذي مات وهو بعد شاب، ولكن إن حضر أستاذنا هذا العهد لما تمنى له ان تمتد به الأيام كما تمنى ليرى ان الأهداف والمثل الكريمة قد تراجعت إلى الخلف خطوات وخطوات، وسط دعاوى التكفير والتهديد التي صارت سيدة الموقف. هل يا ترى إن كتبت للشاعر صالح بطرس الحياة وعاش حاضرنا الراهن سيهتم بمسجد لم يكتمل بناؤه، أم سيهاجر كما فعلها كثير من المسيحيين العاشقين للسودان وأرضه بفعل فاعل، أم سيذهب جنوباً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق