3 أبريل 2004
لا ماء ولا أكل منذ الصباح الباكر والشاحنة المرسيدس تنهب الطريق الترابي بعد أن خفت حمولتها قليلاً. بدا طاقم الحراسة أكثر تساهلاً مع مجموعة المرحلين حيث كان يسمح للبعض بالوقوف لدقائق وأخذ وضع أكثر راحة. ولكن حرارة الطقس المرتفعة في المنخفضات الأرترية تزيد من لهيب السطح الحديدي الذي نجلس عليه.
الفرق شاسع بينها والمرتفعات في مقدار المدى الحراري، ورغم ذلك يتوزع سكان أرتريا بينهما بالتساوي تقريباً. وهم يشكلون حوالي تسع قوميات بعد أن أضيفت إليهم مؤخراً قبيلة الرشايدة (التقري، التقرنيا، البلين، العفر، الساهو، الكناما، الساورتا والنارا) فيما رفضت سلطات الجبهة الشعبية الاعتراف بالجبراتا كقومية يقول أصحاب الشأن إنها أسباب سياسية. كما وأن تلك القوميات تدين إما بالإسلام أو المسيحية، ولكن هناك ديانة جديدة ظهرت بعد الإستقلال هي (الشعبية).
مرافقيّ في الشاحنة (حتى طاقم الحراسة وقائده) موزعون بين تلك القوميات، وتلك الديانات. أما من كان يؤمن بالشعبية فإما ساخط أو متزعزع إيمانه او كفر بها بعد تجربة حكم عملية دامت لأكثر من ثلاثة عشر عاماً عدا أصحاب الحظوة، وهم قلَّة.
سجون X سجون
منتصف النهار توقفت بنا المسيرة في منطقة "فورتو ساوا" في معسكر صغير، بعيداً نوعاً ما عن مركز التدريب الرئيسي (ساوا) حيث كان من حظ البعض الارتياح من عناء مواصلة السفر والسطح الذي ألهب مؤخراتنا. علمت في تلك الأثناء أن محطتنا النهائية هي سجن "أدرسار" الواقع في محيط رئاسة حرس الحدود الذي سارع الجيش الأرتري بإنشائه، على مشارف الحدود السودانية، أثناء الحرب مع أثيوبيا. إطمأن قلبي قليلاً فهذا الموقع قريب من رئاسة قوات التحالف وإذاعة صوت الحرية والتجديد، وأعلم أن لرفاقي كثير علاقات مع الجنود الأرتريين سيطلعونهم على مكان تواجدي، كما وأن مكتب التنسيق الذي لابد للمعارضة السودانية المرور به قبل العبور للمدن الأرترية يقع داخل محيط رئاسة حرس الحدود. ولكن عندما غير السائق مساره –بعد أن أفرغ جزءاً من حمولته- واتجه وجهة غير تلك التي نحسبها (لعب الفأر في عبّي).
وبعد مسيرة ساعتين تقريباً، كنت واقفاً عندما شاهدت ملامح منطقة "كيرو"، وهي منطقة عسكرية فيها واحد من أشهر سجون المخابرات الأرترية السيئة السمعة. وأهم ما هو مشهور به (أن الداخل فيه مفقود)، ففيه تمت الكثير من عمليات تصفية المعارضين الأرتريين، الذين استطاعت القوات الأرترية إعتقالهم، حسب روايات عديدة كانت أشهرها اولئك الخمسة –وهم جميعهم من أبناء التقري- الذين تمكنوا من الهروب في غفلة من الحراسة في يوم انخفضت فيه الرؤية نتيجة للغبار العالق، ولكن تمكنت المجموعة التي لاحقتهم من اصطيادهم واحداً تلو الآخر. وعند عودتهم، بعد أن قاموا بدفنهم في مواقع إغتيالهم، ورفع تقريرهم للمسؤل الأعلى سألهم :"هل تعلمون شيئاً عن هؤلاء؟؟" وأجابهم بنفسه :"لا." وحتى الآن لا يعلم عنهم وعن غيرهم -من الذين لاقوا ذات المصير- أحداً. وهؤلاء فروا لأنهم يعلمون أن مصيرهم الموت، بعد رحلة التعذيب الذي ذاقوه، وإن هم حاولوا الهرب ربما ينجحون ويكتب الله لهم حياة جديدة.
لا يختلف سجن المخابرات الأرترية في "كيرو" عن غيره من سجونها في المناطق الأخرى، ولكنه يتميز عنها بكثرة سراديبه ومتاهاته التحت أرضية. وأن عمليات التعذيب فيه تتم تحت الأرض واحياناً في الهواء الطلق وفي منتصف النهار.
إنها ضريبة الدم
ولكن لماذا كل هذا؟ وهل يستحق المواطن الأرتري كل هذا؟؟ لقد كتب الروائي إميل زولا على لسان أحدى شخصياته في رواية سعادة السيدات :"أجل لقد كان ذلك ضريبة الدم، فكل ثورة تتطلب شهداء، ولا يسير البشر إلى الأمام إلاَّ على جثث الموتى". ولكن ها قد مضت سنوات عديدة منذ أن نال الشعب الارتري إستقلاله بعد حرب طويلة الأمد، دامت لأكثر من ثلاثين عاماً، وهو لا يرى في الأفق منفذا للضوء بعد أن راودته آمالا عراض عقب إعلان الجبهة الشعبية لتحرير أرتريا.
رغم الحرب الضروس التي خاضتها الفصائل الأرترية ضد بعضها أثناء حرب التحرير ومراراتها إلاَّ أن إعلان الإستقلال كان المناسبة الأقوى إن حكَّمت الجبهة الشعبية عقلها واستطاعت استيعاب كل ألوان الطيف السياسي داخل منظومة قومية تسهم في عملية النهضة وإعادة التعمير. ولكن الجبهة الشعبية صارت كما البطل اليوناني ديدالوس الذي بنى متاهة ثم ... تاه فيها بنفسه. فهي –الخارجة من متطلبات مرحلة الثورة- لم تستوعب حجم مسئوليات الدولة، وإختلاف تلك المسئوليات عن المرحلة السابقة، فالشرعية الثورية يمكن أن تمرر عبرها كل الأخطاء وإيجاد مبررات منطقية او غير منطقية لها، ولكن الآن هي مرحلة الشرعية الدستورية. ولأنها عاجزة عن دفع استحقاقاتها، وعلى رأسها الاعتراف بالآخر، لا زالت تدير أجهزة الدولة وفقاً للشرعية الثورية الشيء الذي أدخلها في تلك المتاهة حتى مع نفسها. وما حادث مذكرة الخمسة عشر قيادي، التي طالبت بإصلاحات جذرية وبالبدء في إرساء دعائم الديمقراطية بعد ان وضعت الحرب مع إثيوبيا أوزارها، ببعيد. وها هم يلقون ذات المصير وربما هم الآن في سجن لا يختلف كثيراً عن سجن "كيرو".
4 أبريل 2004
كنا قد وصلنا في الخامسة من مساء يوم أمس، بعد آخر محطة توقف في سجن منطقة "ملوبير" كما بقية السجون التابعة (حصرياً) للمخابرات الأرترية، وبعد أن ترجّل بعض من المعتقلين حيث انتهت رحلتهم هناك. وها نحن قرابة الخمسين شخصاً وجدنا انفسنا داخل سور سجن "أدر سار" الشوكي وقد أزالوا القيود عن أيادينا، وإسم "أدر سار" أصلاً بلغة الحدارب وهي لغة البدويت التي يتخاطب بها أهلنا الهدندوة في السودان ويعني "السهم أو الرمح الأحمر" كما فسره لي أحد (أهل مكة) وهو الإسم الذي يطلقه أهل المنطقة عليها.
ولأننا وصلنا قبل المغيب بحوالي الساعة والنصف، ورغم التعب إلاَّ أنني أرجعت البصر كرَّتين في المكان أثناء جلوسي القرفصاء منتظراً دوري في تفتيش (متاعي). وكنت آخر شخص يستدعونه. ولأنني لا أحمل متاعاً، سوى ملابسي التي على جسدي، تم تفتيشي بسرعة. قذف لي يوناس ببقايا جوال بلاستيكي كان يحمل فيه بعض أغراضه التي أستلمت منه كأمانات، وقال لي :"سيفيدك هذا، أسألني أنا."
سجن "أدر سار" يحتل مساحة كبيرة، حيث تقوم على أرضه مباني ثابتة تخص إدارة السجن تجاور بعضها، وأخرى من الأحجار الصخرية المرصوصة بعناية ومسقوفة (بالسعف)، وهي عبارة عن ثكنات لطاقم إدارة السجن وفصيلة الحراسة التي تتناوب جماعاتها على حراسة السجن والسجناء أثناء حركتهم اليومية. إضافة لذلك تقوم بعض المباني من الزنك تستخدم كمخازن. وهناك في أطراف السور الشوكي يقوم مطبخان من القش، يستخدمان لتجهيز وجبتي المعتقلين والسجناء، تقف أمامهما أعمدة خشبية طويلة (مصنوعة من سيقان الأشجار) يجلس أعلاها من عليه المناوبة لمراقبة الحركة داخل السور الشوكي ولا ينزل إلاّ في المساء.
سجناء تحت الأرض
ولكن أين يتواجد المعتقلون والسجناء؟ إنهم تحت الأرض. وهنا لا يمكن أن نقول (تقوم)، لأن حقيقة الأمر أنه تستلقي ثلاثة عنابر ضخمة تحت الأرض وإثنتي عشرة زنزانة إنفرادية، إضافة لزنزانة جماعية تحتمل حوالي الأربعة أشخاص، ولكنها حين يمتلئ السجن (والنفوس تطايبت) تحتمل أكثر من العشرة، وهذه الزنزانة تستخدم عادة (للنساء والفتيات). والمباني (التحت أرضية) لا يمكن لزائر رؤيتها من الوهلة الأولى ألاَّ إذا دقق النظر ملياً، حيث ترتفع سقوفها عن ظهر الأرض عدة سنتميترات.
من الناحية الشمالية والشرقية للسجن تمتد سلسلة جبلية ضخمة تبعد حوالي الإثنين كيلو متر عن السور الشوكي، فيما تقع مباني رئاسة حرس الحدود وثكناته من الناحية الغربية والجنوبية الغربية، وأقرب مبنى –على مسافة كيلو متر واحد- هو الاستراحة الفخمة التي يقيم فيها الجنرال تخلي منجوس عند زياراته للمنطقة.
قذفوا بنا ذلك المساء، بعد أن تم توزيعنا إلى مجموعتين، في العنابر المستلقية تحت الأرض. تلفت حولي محاولاً إختراق الفراغ، الذي يلفه ضوء باهت، ببصري لتتجسد لي الأشكال الهلامية كبشر وأستطيع تمييز بنياتهم وأماكن وجودهم. موجودون في كل سنتميتر داخل العنبر، لا تكاد قدم قادمة تجد لها موطئ. بالكاد وجدت لي شبراً، بعد الضجة التي أثارها مرافقي، وسودانيتي. حشرت الجوال البلاستيكي في تلك المساحة وحاولت التمدد.
وجدتني مستيقظاً هذا الصباح لا أدري كيف كان منامي، فلا أحلام ولا كوابيس قضت (مضجعي). لأبدأ التعرف الحقيقي على ما حولي ومن حولي. ومع شروق الشمس خرجت مع الآخرين من جحرنا عبر سلم حجري درجاته، بعد أن سمعت صوت جرس طويل.
جلسنا جميعاً أمام بوابة عنبرنا، كما فعل الآخرون ذات الشيء، ليبدأ قائد الجماعة المناوبة في التأكد من عدد سجناءه، يساعده واحد من الأفراد. كانت حصيلته من رؤوس عنبرنا، التي كرر إحصاءها مرتين، تجاوزت المائة وخمسين شخصاً. ويبدو لي أن عدد رؤوس العنابر الأخرى لا يقل عن هذا إذا لم يزد قليلاً، إضافة لمجموعة قليلة جلست أمام زنازين الحبس الإنفرادي وعدد من الفتيات جلسن أمام المكان المخصص لهن.
أمرنا قائد الجماعة، وهو يحمل عصاة طويلة يهدد بها شيء غير محدد، أمرنا بالجري إذا كنا نريد الخروج إلى الغائط. كان على مجموعتنا أن تسير، بعد رحلة الجري، في أربعة صفوف حتى يسهل أمر مراقبتها وهي في طريقها إلى الخلاء، حيث التبرز الجماعي قرب السلسلة الجبلية. ليبدأ الطابور اليومي بعد أن يكون الواحد من قد (أخذ راحته) بالكاد، حيث يتجه الجميع إلى أعلى الجبل، يحمل الواحد منا صخرة ليعود بها إلى معسكر الإعتقال أو إلى حيث يأمره الحرس. ولأن اليوم أحد فلن تتكرر هذه العملية إلاَّ مساءاً حين رحلة الخلاء الثانية المسموح بها للتبرز.
قصة "سيزيف" أو تخليس
ولكن ما بال هذا الشيخ الكبير -كما سيزيف- لا يكاد يصل أعلى الجبل حتى يعود متدحرجاً هو بدلاً من الصخرة، وتنهال عليه عصاة الجلاد في قسوة قبل أن ينهض في صعوبة بالغة. إنه رجل تجاوز الستين من عمره بقليل، تبدو عليه آثار الإرهاق والتعب ينادونه بإسم "تِخليس". إعتقلته المخابرات الأرترية وهو يقود عربته اللوري قرب الحدود الأرترية السودانية منذ أكثر من ستة أشهر، واتهموه بترحيل بعض المواطنين الأرتريين ومحاولة تهريبهم إلى السودان. تم نقله أولاً إلى مدينة تسني الحدودية حيث أخضع لتحقيق تحت التعذيب. "كانوا رجال المخابرات يجلدونني مساء كل يوم، ولكني لم أفعل شيئاً حتى أقر به، لم أقعل شيئاً". كان وجهه يطفح أسىً وهو يقول ذلك.
سجن المخابرات في تسني، هو مجرد محطة يعبر بعدها المعتقلون إلى سجون أخرى. ولكنه اشتهر بممارسة التعذيب وعلى سيء الحظ الذي يدخله أن يقر في خاتمة المطاف بأنه قام بإرتكاب التهمة الموجهة إليه وعليه أن (يُفَرِّمْ) –أي أن يوقع أو يبصم أو الإثنين معاً- على ذلك.
كان على تخليس أن يوقع ويبصم على انه حاول تهريب بعض المواطنين الأرتريين عبر الحدود إلى السودان، تحت الضغط والتعذيب. "كانوا يجلدونني بخرطوش، ومرات بسلسلة حديدية، واحياناً يتم ربط يدي من الخلف وتعليقي على (عرَّاضة) بحيث تلامس أطراف أصابع قدمي الأرض بالكاد. بعد مرور الشهرين كان لابد أن أوقع عسى أن تتوقف معاناتي ويقدموني لمحاكمة".
ولكنهم لم يقدمونه لمحاكمة، وإنما تم ترحيله إلى سجن "أدر سار"، ومضى على وجوده -حتى اليوم- أكثر من ستة أشهر تحت الأرض، ولا يدري كم عليه أن يبقى حتى يعود لأولاده الذين لا يعرفون مكان وجوده. عليه أن ينتظر ويتحمل في صبر رفع وترحيل الصخور من الجبل إلى حيث يأمره الحارس، ويمكن أن يتكرر هذا الأمر أكثر من أربعة مرات صباحاً ومساء.
وجد تخليس نفسه مرة يشتم الحارس، الذي لم يتوانى في ضربه على قمة الجبل بعد أن رفض حمل صخرة تزن قرابة المائة كيلو جرام. إن ظهره لم يعد يحتمل، يؤلمه بشدة، هذا ما قاله لأحد الحراس. ولكنه رفض الإستجابة لكل توسلاته، إلى أن أضطر إلى شتمه وسب كل ما يمت إليه بصلة. قاموا باقتياده بعد تقييد يديه من الخلف إلى معسكر الإعتقال لنجده –بعد وصولنا- مرمياً على الأرض في منتصف النهار وهو مقيد اليدين والرجلين كما يسميها أباطرة التعذيب (الطيارة قامت). بقي على هذا الحال إلى أن شارفت الشمس على المغيب، وكادت اطرافه أن تصاب بالشلل لولا عناية الله.
سودانيون في السجن
ولكن أهم حدث بالنسبة لي كان لقائي بعد عودتنا المسائية من الرحلة الصخرية، عندما استوقفني شاب وديع في نهاية العشرينيات من عمره، يبدو على تقاطيع وجهه الإرهاق. سألني عن إسمي وسبب وجودي في السجن. ذكرت له إسمي، وقلت له: "حقيقة .. لا اعلم سبب وجودي بالضبط". ولما علم أنني أنتمي لإحدى الفصائل المعارضة إستغرب ذلك وقال لي إنهم عادة لا يحتجزون المعارضين هنا، ستخرج اليوم أو غداً بالكثير، وطلب مني -بناءاً على ذلك- أن أطلع قيادة المعارضة بأمر (وجودهم) هنا عسى أن يفعلوا شيئاً من أجل إطلاق سراحهم. ضحكت في سري كثيراً على حسن نيته وشدة قناعته بإمكانية تحقيق طلبه. ولكنني ارتحت أكثر عندما علمت أن هناك بعض السودانيين داخل السجن، ليس بسبب كونهم معتقلين ولكن هم نفر من أبناء جلدتي على الأقل. التقيتهم في اليوم التالي، بابكر (ذلك المنصوري صاحب النكتة الحاضرة والبديهة) وعبده (كما يطلقون عليه) وإسحق. وجميعهم من مواطني مدينة كسلا. ولأسباب إعتقالهم حكاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق