إذا كان الاعتراف سيد الأدلة في العرف القانوني، فالإعتراف بالذنب فضيلة؛ هكذا تقول الحكمة. لكن هذا الإعتراف إذا لم يتبعه فعل إيجابي سيبقى مجرد كلام للاستهلاك لا يقدم ولا يؤخر. بعد أكثر من عشرين عاماً بدأ سيل من الإعترافات يندلق من ألسنة قيادات الحزب الحاكم، ليغطي على المشهد العام. وكل هذه الإعترافات تكشف مدى الفشل المريع للمشروع الحضاري الذي تبنوه وحاولوا تنفيذه على جثث الموتى وارواح الأحياء.
سنبدأ بالاعتراف الأول والأسطع، وهو استشراء الفساد الذي اعترفت به قيادات المؤتمر الوطني، ونقرأ ما جاء في البيان الأول للعميد (حينها) عمر حسن أحمد البشير "أيها المواطنون الشرفاء.. قد امتدت يد الحزبية والفساد السياسي إلى الشرفاء فشردتهم تحت مظلة الصالح العام، مما أدى إلى انهيار الخدمة المدنية، وقد أصبح الولاء الحزبي والمحسوبية والفساد سبباً لتقدم الفاشلين في قيادة الخدمة المدنية، وأفسدوا العمل الإداري وضاعت هيبة الحكم وسلطان الدولة وصالح القطاع العام."
وليست هناك كلمات أبلغ من وصف لما وصلت إليه حالة البلاد من الفساد كالتي جاءت في نفس البيان الأول في يونيو 1989، فقد جاء في بيان السيد الرئيس حينها "لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية، وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور، ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية، فازدادت حدة التضخم وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل، واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم، إما لانعدامها أو لارتفاع اسعارها".. ويختم تلك الفقرة من البيان ب"كل هذا أدى إلى استشراء التهريب والسوق الأسود مما جعل الطبقات الاجتماعية من الطفيليين تزداد ثراء يوماً بعد يوم بسبب فساد المسؤولين وتهاونهم في ضبط الحياة والنظام." هل من تعليق؟
ويبدأ الاعتراف الثاني بمواصلة ما جاء في البيان "وقد أدى هذا التدهور الاقتصادي إلى خراب المؤسسات العامة وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية." حيث جاء في الصحف مؤخراً أن وزراء التربية والتعليم بالولايات شكوا من التردي والتدهور المريع الذي حاق بالعملية التعليمية في الولايات، وكشفوا عن وجود فجوات في أعداد المعلمين وصلت إلى 7 آلاف في ولاية غرب دارفور وحدها. النقص في الاجلاس في مرحلة الاساس بلغ 45% بينما بلغ في المرحلة الثانوية 40% واعتبروا الحديث عن مجانية التعليم ساهم في تشويه صورة وزارات التعليم أمام المجتمع وعدوها شعارات مردودة والعالي. هذا غير الاعتراف بفشل سياسة التعليم العالي و(ثورته) في رفد الوطن بكوادر بشرية مؤهلة قادرة تعلى تحمل مسئولياتها في بناء الوطن، حيث عاب قياديون في الحزب الحاكم على التعليم العالي مستوى الخريج الجامعي.
أما الصحة فيكفي (نكتة) الرئيس التي أطلقها في اجتماعه بحكومته بأن مخصصات المستشارين في الولايات تكفي لتعيين أعداد كبيرة من الأخصائيين الطبيين في الولايات التي ظلت تعاني نقصاص كبيراً في الخدمات الطبية.
الاعتراف الثالث يطل بين ثنايا البيان الأول الذي جاء فيه "كما فشلت حكومات الأحزاب السياسية في تجهيز القوات المسلحة لمواجهة التمرد..." وهنا يكفي اعتراف مجلس الوزراء الأخير بإهمال الدولة لرفع كفاءة وقدرات الدفاع الجوي عقب الضربة الجوية التي استهدفت عربة "السوناتا" قرب بورتسودان.
الاعتراف الرابع مقروءاً مع ما جاء في البيان الأول "اليوم يخاطبكم أبناؤكم في القوات المسلحة، وهم الذين أدوا قسم الجندية الشريفة، ألا يفرطوا في شبر من أرض الوطن" ... ويواصل "وقد تحركت قواتكم المسلحة لإنقاذ بلادنا العزيزة من أيدي الخونة والمفسدين، لا طمعاً في مكاسب السلطة، بل تلبية لنداء الوطن الأكبر في إيقاف التدهور المدمر، ولصون الوحدة الوطنية من الفتنة السياسية، وتأمين الوطن وانهيار كيانه وتمزق أرضه، ومن أجل إبعاد المواطنين من الخوف والتشرد والجوع والشقاء والمرض."
لقد تمزق الوطن بانفصال الجنوب، واستفحلت الفتنة السياسية في دارفور باعتراف السيد الرئيس لصحيفة الجارديان البريطانية وتحمله مسئولية ما يجري في دارفور، والمواطنون يرزحون تحت وطأة الخوف والتشرد والجوع والشقاء والمرض.
ماذا تبقى من مبررات ليستمر هذا النظام بعد أن نسف كل المبررات التي قادته لإنقلابه على النظام الديمقراطي قبل عشرين عاماً، خاصة بعد إعترافات قياداته بكل ذلك، وهذه فضيلة يجب ان تتبعها فضيلة أخرى وهي الإعتراف بالفشل وبالتالي التنحي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق