ذهب مع الريح - من دفاتري القديمة 5

 سيذهب تفكيرك، مباشرة، عزيزي القارئ، الى الكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشل صاحبة الرواية الوحيدة التي وضعتها في مصاف الكاتبات الاكثر شهرة وهي رواية "ذهب مع الريح"، تلك الرواية التي غرقت في تفاصيل الحرب بين الشمال والجنوب الأمريكي (دائما الحروب بين الشمال والجنوب حتى في أمريكا) تروي قصة فتاة بسيطة تعيش قصة حب مدمرة تحول حياتها لكراهية وانتقام ، أو ربما تستعيد ذاكرتك ذلك الفيلم السينمائي الفخيم الذي حول تلك الرواية إلى سيناريو سينمائي ليعرض في دور العرض ويحقق أكبر نسبة إيرادات في تاريخ السينما، ويفوز بثماني جوائز أوسكار عدا الهدايا التذكارية.

أما هنا فأنا لا أكتب حول (Gone with the Wind)، بل عن معدن الذهب فهل يجوز لي أن أقول (Gold with the Wind)؟ ولم تبدأ القصة ولا معرفتي ببعض تفاصيلها، من خلال روايات عديدة ولأشخاص مختلفين، عندما كنت أجلس في هدوء على مقعدي في الحافلة ليصعد إليها بعد حين شابان تجاوز عمرهما الثلاثين. يبدو أنهما يديران حواراً يقطعان به قلق الانتظار لحين وصول الحافلة ليتواصل بعد ذلك وهما يجلسان في المقعدين خلفي مباشرة. ما لفت إنتباه أذني، وبعدها "رخيت أضاني" في متعة كبيرة كأكبر مسترق للسمع، تلك المبالغ الضخمة التي يتحدثون عنها، مئات الملايين بل تصل أحياناً لعدة مليارات حسب النقاط التي يحرزها سوق الأوراق المالية صعوداً وهبوطاً، وحسب تصاعد حرارة الحوار بينهما من أجل تدعيم كل منهما لوجهة نظره رغم أنهما غير مختلفين في وجهتي نظرهما.
بلغ الحوار قمته وكان يدور عن التنقيب العشوائي للذهب في مناطق نهر النيل والشرق، وارتفعت درجات الإثارة عندي لأعلى مدى لها، حتى كدت أن أقفز عبر الشباك الذي بجواري حتى لا يسمعا الضحكة التي كادت أن تنطلق لولا أنني قمعتها وسددت عليها منافذ الخروج بكل قوة كما فعلت قوات الشرطة بالمسيرات السلمية.
قال الأول: تعرف!! واحد من أبناء الشرق وجد كميات بتاعت دهب ورجع لي هيا (مدينة في شرق السودان وتقاطع للسكة حديد) قال لأهلو أنا عايز اشتري قطر.
تساءل الثاني بجدية وقد بلغت به الإثارة حداً لا يوصف: قطر؟؟
نظرت عبر النافذة إلى وابور (قطر) ديزيل يتحرك ببطء وخلفه عدد لا بأس به من عربات شحن البضائع الحديدية بالقرب من مطاحن سيقا، وامتلأتُ رغبةً في الإلتفات إليهما لأسأله أيضاً: داير يشتري قطر عديل كده؟ لكني آثرت الصمت وأنا أقمع تلك الضحكة داخلي وجسدي يهتز، بل كاد ينفجر اهتزازاً عندما واصل الثاني في براءة مثيرة للشفقة: إنت القطر بيكون بي كم؟
رد عليه الأول: إنت قايلني شغال في السكة حديد عشان أعرف ليك القطر بي كم؟
ولكن الثاني لا يتركه في حاله ويبدو كمن سال لعاب عقله لمناجم الذهب التي فتحها صديقه أثناء الحوار: يا خي ده داير قروش كتيرة خلاص وزول براهو ما بيقدر يشتري قطر.
ليفحمه الأول برد عملي من الواقع: منو القال ليك؟ إنت ما بتسمع بي شيخو وقطرو الشغال في الغرب، ده شغال شغل جد بين نيالا والفاشر والجنينة.
أسقط في يدي وبدأت أراجع معلوماتي حول خطوط السكة حديد وهل بلغت مرامي أطرافها الفاشر والجنينة، وقلت في سري: والله شيخو ده خطر جداً، وأبعد نظراً من هيئة السكة حديد وأكثر مالاً بحيث يمد خطوط تربط الجنينة والفاشر بخط السكة حديد المنتهي في نيالا حسب معلوماتي.
أول مرة يطرق فيها أذني هذا الموضوع قبل نحو أربع سنوات، عندما علمت أن صديقي ورفيق دربي، في مرحلة مهمة من حياتي، "ود الشيخ" قد امتطى صهوة فكرته المغامرة (وهو المغامر بطبعه)، وغادر إلى أصقاع نهر النيل بحثاً عن الذهب، فاتحاً صدره لريح الصيف والشتاء في تلك المساحات الجرداء إلا من الحصى. لم أعر الأمر وقتها إلتفاتاً وقلت مجرد حالة جنون تنتابه من حين لآخر وسيعود عقله إليه، ولكنه آثر البقاء وإطلاق ما يبعث على الطمأنينة بكثير كسب سيجنيه في ضربة واحدة ويعود بعدها ثرياً ليمارس كرمه المعهود فيه (حتى في أشد حالات عوزه)، إنه من صنف البشر الذين يتلذذون بممارسة الكرم. بعد أربع سنين عاد صديقي "ود الشيخ" خالي الوفاض، وهو يروح ويغدو (راكباً) رأسه بأن لابد من الحصول على الذهب ولو إنهدت كل الآبار على رأسه.
شيء ما أشبه بأساطير الحكايات الشعبية، تلك التي تروى عن رحلة البحث عن الذهب في نهر النيل. تصر إحدى النساء من عطبرة أن جارهم غادر المدينة راجعاً إلى مسقط رأسه شمال عطبرة بعد إكتشاف شقيقته أن منزلهم قائم على منجم من الذهب –حسب الرواية- غادر صاحبنا ولم يعد حتى الآن. أما عدد الذين أثروا فأحسب بأصابع يديك ورجليك هؤلاء صاروا بليونيرات بين عشية وضحاها، أما المليونيرات فأحسب ولا حرج.
لكن المدهش في الأمر أن نساء الحي الذي أقطنه يتحدثن عن ساكن جديد بنى بيته الفخيم في أقل من شهر بعد عثوره على حفرة ذهب في نهر النيل، والرجل أصلاً –ولا زال- يعمل في مجال الأسمنت والسيخ وأدوات البناء، مهرولاً بين صفا السكة حديد بحري ومروة مغالق السجانة. أما الأكثر إدهاشاً هو أن لا أحد سمى لي شخصاً بعينه إكتسب ثروة بهذا الحجم الذي يجعل أبن الشرق أن يفكر في شراء قطار (مرة واحدة).
فكرت كثيراً في الأمر، وأنا أسمع عن اجهزة تجاوزت أسعارها أرقام فلكية مختصة بكشف الذهب تحت باطن الأرض القريب من السطح. أرقام قاربت في وقت ما المائة مليون جنيه (بالقديم)، وانخفضت مع مرور الزمن لتصل إلى أربعين وثلاثين مليوناً. وكما قطار الغرب الأمريكي شد الرحال إلى مناطق الذهب المزعوم قرابة الأربعين ألف شخص، أقاموا مدناً في تلك الأصقاع، مدنٌ بأسواقها وخدماتها والرحلات اليومية منها وإليها.
ولم يصل بي التفكير إلا إلى خدعة كبرى وقع في حبال شركها عشرات الآلاف من أبناء الوطن يجوبون الفيافي ويموتون ويعانون في ما لا طائل منه. وعلى طريقة الروائي المصري المبدع صنع الله إبراهيم في روايته "ذات" سأستعرض معك –عزيزي القارئ- هذا الإعلان:
احدث واقوى جهاز بالعالم بنظام التصوير متخصص لكشف الذهب الخام والمناجم
عزيزي العميل جرب الجهاز قبل الشراء بأي طريقه تشاء
بشرى ساره و مفاجأه لكل منقب عن الذهب الخام والمناجم
إذا كنت تريد الثراء خلال ساعات قليله واستخراج الذهب الخام بكل وضوح وبكل سهوله وبأسرع وقت انشاء الله
عرض قوي جداً لأحدث وأقوى جهاز بالعالم بنظام التصوير الحقيقي جهاز Jeohunter 2 2009 المتخصص لكشف الذهب الخام والمناجم خفيف الوزن سهل الاستخدام مجرب مع الكفاله لمدة عامين
بسعر مغري جداً …………… !
عزيزي العميل لاتدفع ولاترسل دولار واحد قبل التجربه الميدانيه الحقيقيه زورنا في المؤسسة واجلب معك قطعة ذهب لايتجاوز وزنها اكثر من ربع غرام وجرب الجهاز عليه سترى عجب العجائب يعطيك صورة الذهب تحت الارض + نوع الذهب هل هو ذهب خالص ام يوجد فيه شوائب + العمق + الكميه الموجوده تحت الارض
بإمكان أي شخص يعمل على الجهاز حتى لو كان لايقرأ ولا يكتب
كما يرفق مع الجهاز قرص CD باللغه العربيه فيه شرح كامل لطرق عمل وتشغيل الجهاز وكيفية التنقيب عن الذهب
العرض لفتره محدوده اغتنم الفرصه ولاتتردد
نتمنى لكم التوفيق والنجاح انشاء الله
خدمة التوصيل لجميع انحاء العالم خلال 3 أيام
مؤسسة (.......) لتجارة الاجهزه الدقيقه أجهزة كشف الذهب والكنوز والمياه
تركيا –انطاكيا - إسطنبول
هاتف :00000000
للاطلاع على مواصفات الاجهزه وخدمات التوصيل والشحن يرجى زيارة موقعنا الالكتروني.

إنتهى الإعلان الذي عثرت عليه في إحدى الصفحات الإلكترونية، ولنقرأه بعناية بعد أن نستكشف الحلقات الأولى من هذا المسلسل العجيب.
الحقيقة الأولى في هذه الرواية أن هناك ذهباً بكميات لا ترقى لمستوى التعدين الإستثماري الذي يشجع الدولة على إستخراجه بطرق علمية مكلفة. الحقيقة الثانية أن هناك من إستطاع استخراج عدة جرامات من الذهب -حسب روايات منطقية- ولكنها لا تساوي في قيمتها حجم التعب والتكاليف التي صاحبتها.
أما الكذبة الكبرى فهي تلك الشائعات التي انطلقت بإكتشاف كميات مهولة من الذهب، بالحفر اليدوي. وأن العديدين إنتقلوا من خانة الفقر المدقع إلى عوالم الأثرياء.
قال أحدهم ساخراً من الأمر برمته: بالله لو في ذهب قدر دا، كان ناس المؤتمر الوطني خلوا الخلق دي كلها تتجارى عشان تغنى بين يوم وليلة وهم سادين كل منافذ الرزق على خلق الله مما عملوا إنقلاب 89.
على إثر تلك الكذبة، إنطلقت جموع الباحثين عن الخروج من عنق زجاجة الفقر التي أدخلتهم فيها الحكومة، ولكي تبقى الشائعة حقيقة وتؤتي أكلها ويحافظ أصحاب المصلحة على إستمرار تدفق المنقبين عن الذهب، كان لابد من تلك الأسطورة، أسطورة أن هناك العديد من البليونيرات دخلوا من هذا الباب وعادوا يحملون جوَّلات من الأموال (تكفيهم لي جنى الجنى)، أما من هم أولئك الناس فلا أحد بالتحديد يعلم ذلك.
يأتيك أحدهم يجرجر أزيال خيبته، ويقص عليك تلك الحكاوي الخرافية عن شخص ما عثر أمامه على حجر من ذهب يساوي عدة كيلوجرامات. وعندما تسأله عما إذا كان إلتقاه بنفسه، يهرب دائماً بالإجابة إلى أن من سبقوه هم من قالوا ذلك. وهكذا حال كل من التقيتهم.
إذاً قامت وتأسست مملكة هناك لابد أن تحافظ على أسطورة بقائها، مملكة من الباعة والأسواق ومقدمي الخدمات المتنوعة، وأصحاب الحافلات والبكاسي المتجهة من وإلى المنطقة. لتكتمل الدراما بدخول اجهزة حديثة للتنقيب والكشف عن معدن الذهب في باطن الأرض، وبتلك الأسعار الخرافية، لترتفع حرارة الطلب عليها.
ولنقرأ ذلك الإعلان أعلاه بروية وسطر سطر. أولاً هو أقوى جهاز لكشف الذهب، ويمكنك تجريبه قبل الشراء بأي طريقة تشاء. لاأدري كيف أستطيع تجريبه قبل الشراء إذا كان الجهاز موجوداً في اسطانبول بتركيا. وهو يدعوك –عزيزي القارئ- بإغراء شديد، أنك إذا كنت تريد الثراء خلال ساعات قليلة واستخراج الذهب بكل سهولة فما عليك سوي بهذا الجهاز العجيب، فهو خفيف الوزن ومجرب وبكفالة لمدة عامين. والسعر مغري جداً! ليس بالإمكان أبدع مما سيكون. ويواصل الإعلان في استخفاف شديد بالعميل وهو يواصل إغراءه " عزيزي العميل لاتدفع ولاترسل دولار واحد قبل التجربه الميدانيه الحقيقيه زورنا في المؤسسة واجلب معك قطعة ذهب لايتجاوز وزنها اكثر من ربع غرام وجرب الجهاز عليه سترى عجب العجائب يعطيك صورة الذهب تحت الارض + نوع الذهب هل هو ذهب خالص ام يوجد فيه شوائب + العمق + الكميه الموجوده تحت الارض."
إذاً عليك أن لا تدفع دولاراً واحداً وان تزورهم في المؤسسة، أي أن تقطع تذكرة سفر إلى تركيا، وتتحمل مصاريف إقامتك هناك لمدة غير محددة، وليس لديهم ذهب للتجربة، بل عليك أن تقطع كل هذه المسافة حاملاً في جيبك ربع جرام من الذهب للتجربة.
أما المضحك في كل ذلك أن الجهاز يمكن أن يعمل عليه المتعلم والأمي، ولكن معه قرص سي دي باللغة العربية لشرح طريقة عمله وتشغيله، ويتمنى لنا الإعلان التوفيق والنجاح "إنشاء الله"، ليعلمنا بعد ذلك ان خدمة توصيل الجهاز إلى كل أنحاء العالم خلال 3 أيام. وفي ختامه للاطلاع على مواصفات الاجهزه وخدمات التوصيل والشحن يرجى زيارة موقعنا الالكتروني. طيب ياخي أن وصلت تركيا ومعاي ربع الجرام ذهب وجربت الجهاز، هل يصعب علي أن أحمله معي (صحبة راكب)؟ خاصة وانه خفيف الوزن؟
أعتقد أن الصورة لا تحتاج إلى مونتاج أكثر من هذا لتتضح، لكن التساؤل الأكبر وغير البريء هو:
أين الحكومة من كل ذلك؟ وهي ترى الآلاف من مواطنيها يغرر بهم في رابعة النهار ولا يحصدون سوى أمل ذهب مع الريح، والاَّ ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق