واحدة وثلاثون جلدة على مؤخرة رجل - 4

جلدة سادسة

سيدي رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان..

هل تعرَّفت إلى مقاتل في الجيش الشعبي اسمه ”كواج نيور كواج“..؟! هو شاب مضطرب نفسياً، ومعتقل في سجن ”ربدة“ باعتباره ”مجنون“..!! ولكنه واحد من الإشراقات التي التقيت بها في تلك ”الزريبة الشوكية“، التي لا تصلح للحياة الآدمية، إنما يمكن أن تحفظ داخلها أبقار وأغنام، دون أن تثير حساسية المدافعين عن حقوق الحيوان، ولكنها تحدث خللاً أو شرخاً نفسياً في من يعتبرون متوازنين نفسياً قبل دخولها، أمثال ”أبو حديد“ من أبناء دارفور، و”أليكو“ من أبناء الزاندي، وغيرهما، ناهيك عن المضطربين أصلاً.

الصورة: غلاف الكتاب

قصة ”كواج“، كما يرويها وسط حكاويه المضطربة، هي قصة الحرب في السودان، ولكنها تبرز بوضوح وجلاء آلية التعبئة التي تعتمدها الحركة الشعبية في الاستقطاب لصفوفها، وإذا كانت شهادة ”المجنون“ لا تعتمد لدى الدوائر القانونية، لكني أعتمدها هنا، برغم صعوبة التقاط كافة خيوطها.. وهي (أي الآلية) تعتمد بشكل أساسي على محاربة ”الجلابة“، وهو مفهوم فشلت الحركة في الالتفاف حول مضامينه الإثنية، برغم محاولاتها إضفاء صبغة فلسفية عليها والتنظير له.. وظل هذا المفهوم، بمضامينه الإثنية، هو ركيزة خطابها التعبوي في محاولاتها استقطاب أعداد كبيرة جماعية (قبلية) وفردية من أبناء الجنوب.

”كواج نيور كواج“ من أبناء دينكا منطقة ”أويل“، وبالتحديد من قرية ”مريال باي“ التي كثيراً ما يتغنى بها ولها، ويطلق عقيرته بالغناء في قمة لحظات صفائه الروحي، ودائماً ما يقرنها بحب شقيقته ”أتاك“.. و”أتاك“ هذه، كما يستشف منه في لحظات هذيانه، متزوجة وتعيش في الخرطوم بحري بمنطقة الحاج يوسف.. ولد ”كواج“، إذن، في ”مريال باي“، ضواحي مدينة أويل، في إقليم بحر الغزال، كما تقول روايته.. وله عدد من الأشقاء والشقيقات، وربما كان يرعى الأبقار في صباه، ومورست عليه ومارس كل الطقوس، حتى تلك الشلوخ المخطوطة أعلى جبهته العريضة تقول أنه لم يغادر مرتع صباه إلاَّ بعد أن شب قليلاً.

تلك المنطقة، حول أويل، تعشعش ملامحها في ذاكرتي، وتسعفني تلك الصور الفوتوغرافية التذكارية التي التقطها والدي إبان فترة قضاها هناك، غطَّت المنطقة حتى مدينة واو موظفاً في هيئة سكك حديد السودان، أيام عزها، إلى أن أحاله أهل ”الإنقاذ“ إلى ”الصالح العام“، بعد أن عمل في معظم بقاع السودان، شرقه وغربه، شماله وجنوبه.. وقد ساعد ذلك الوضع في تشكيل وعيي بشكل رئيسي.

كانت هيئة السكة حديد وقتها تضم هيئة النقل النهري، وهيئة الموانئ البحرية. وقد كتبت مرة مقالات حول السكة حديد، تناولت خلالها زوايا اجتماعية جاء فيها: ”هي –بحق- عالم تتلاقى داخله كل الأطياف العرقية والسياسية والدينية جمعهم القطار. ولنتخيل حجم هذا الطيف البشري الذي يعمل في خدمة القطار وحجم الطيف البشري الذي يستفيد من خدمات القطار من ركاب وباعة في المحطات الكبيرة والصغيرة، وحجم الشبكة الحديدية التي هي بمثابة شرايين وأوردة تربط كافة أنحاء السودان، من واو جنوباً إلى نيالا وبابنوسة إلى الرهد والأبيض إلى الدمازين والروصيرص إلى كسلا وبورتسودان إلى وادي حلفا إلى مدني وسنار إلى أبوحمد وكريمة، شرايين يتدفق فيها دم سوداني حار مختلط بعرق وأنفاس لا يمكن التمييز بينها.. إنها مثل الشرايين والأوردة، فهي خريطة لدورة دموية كبرى تغذي كل السودان تساعدها دورة دموية صغرى متمثلة النقل النهري عندما كان يتبع لمصلحة السكة الحديد حيث يقودنا إلى أجزاء وأطراف يصعب على الخطوط الحديدية اختراقها ورغم أنها فقدت ذلك الطعم الخاص لصافرات القطارات إلا أن طعم صافرات البواخر النيلية له خصوصيته.“

هل لدى الحركة الشعبية خطة فاعلة لإعادة الحياة لهذا الصرح العملاق..؟! فهو، بحق، واحد من دعامات تحقيق الوحدة في ظل كل هذا التنوع.

لم يذكر ”كواج“ شيئاً عن طفولته، وربما لا يذكر شيئاً، بسبب الأحداث التي مرَّ بها منذ خروجه من بحر الغزال متجهاً شمالاً.. ولأن عمره مبهم بالنسبة لي، فمن الصعب تحديد تلك الفترة بدقة لقراءة مجريات أحداثها.. لكن وعيه لا يزال يذكر فترة حكم النميري، وأعتقد أن هذه الذكريات مرتبطة بالنصف الأخير من عهده، لأنه يلصق بها اسم الصادق المهدي رئيس وزراء ”الديمقراطية الثالثة“، دون المرور بفترة الحكم الانتقالي (يبدو أنها لم تترك أي أثر لديه). وهذه الفترة ارتبطت ببدايات تنصل النظام المايوي من اتفاق أديس أبابا، كما ارتبطت بتوترات منطقة التماس.. فواحدة من المحطات المركزية أثناء تداعيات خواطره الغير منتظمة تظل دائماً أحداث أقرب إلى الخيل والفر والكر، وأخرى بتلك الحادثة الشهيرة في محطة ”الضعين“، عندما مات العديد من أبناء ”الدينكا“ حرقاً داخل عربات السكة الحديد، بعد أن هاجمهم رجالات الرزيقات، وقد أصدر أستاذان من جامعة الخرطوم هما ”بلدو“ و”عشري“ كتاباً حول هذه الحادثة، أثار ضجة كبرى وقتها، وأدى إلى اتهامهما من قِبَل السلطة الحاكمة اتهامات تصل عقوباتها حد الإعدام.. إن سلطة المركز طوال فترة الحكم الوطني افتقرت إلى الحكمة في التعامل مع العديد من القضايا، مما أدى إلى تراكمها، وتراكم تبعاتها، لتثقل كاهل الوطن والمواطن في خاتمة المطاف.. بل إن سلطة المركز ساهمت في تأجيج ودعم الكثير من التوترات القبلية، أو غضت الطرف عنها، ولم تبادر بإطفائها، نتيجة حسابات سياسية خاطئة.. وتقف دارفور الآن شاهداً على كل ذلك، بالرغم من البعد الخارجي فيها، والذي لولا أن وجد الأرض خصبة، وثمارها دانية، لما استطاع أن يتوغل عميقاً.. على الأقل بهذه السرعة.

عينا ”كواج“ تقدحان شرراً وهو يسترسل في تلك الرواية، التي تتخللها موضوعات كثيرة غير مترابطة، فبعد أن يثني على ”النميري“، ويسبه، يلعن سلسفيل السيد ”الصادق المهدي“، وصهره الترابي، ثم يعرج على عمر البشير يهتف من أعماقه ”SPLA ووييي“ ويقوم بتحيتكم التحية العسكرية، ثم يفترش لهيب الرمضاء، دون أن يهتم كثيراً للعرق المتصبب من كل جسده.. ينطفئ لحظتها ذلك اللهيب المتقد في عينيه، ويسترخي كل جسده، ليروح في إغماءة سريعة عميقة، ويسيل لعابه على جنبات شفتيه.

عاش ”كواج“ فترة من عمره في ضاحية الحاج يوسف بالخرطوم بحري، وفي منطقة كوبر تحديداً، حيث وصل حتى المرحلة المتوسطة في دراسته، وعمل في ذات الوقت بأحد مصانع الصابون في منطقة صناعات بحري.. ويبدو إنها كانت مترعة بذكريات طيبة، لا زالت عالقة ببقايا ذاكرته، ومن بينها الكثير من أسماء سودانيين من الجنوب والشمال.. أصدقاء أو معارف دراسة أو في العمل.. ولكن أهمها شقيقته ”أتاك“ وزوجها.. كان عادة ما يصرخ باسمها أثناء نوبات هيجانه.

ولكن هناك حادثة ما، متعلقة بموت أخيه، أو بمرض عضال أصابه فيما يبدو، ظلت تحلق حول تخوم تلك الذكريات هي ما قاده في النهاية للعودة جنوباً بعد أن ترك جزءاً من عقله هناك، كما يزعم بعض رفاقه.. وعاد إلى ”مريال باي“، ومن ثم انضم إلى الجيش الشعبي لتحرير السودان، وجاء إلى الجبهة الشرقية ضمن قوات الجيش الشعبي المنقولة جواً ”Timber 1“، ومن بعدها جاءت أيضاً ”Timber 2“ لتشكلان قوة إضافية لقوة ”الجنقو“ التي استقطبتها الحركة الشعبية من العمال الزراعيين في غرب إرتريا وإثيوبيا وشرق السودان.. ولم تنمحي مشاعر الغيرة بين القوتين، رغم محاولات قيادة الجيش الشعبي، ورغم النظام العسكري الصارم الذي يحكمه.

ضحك ”كواج نيور كواج“ ضحكته المميزة، التي تثير عاصفة من الفرح حوله، عندما رأى سياط الجلاد تنزل علينا بلا هوادة، وقال مخاطباً نفسه أولاً والجمع المتحلق بنظراته فيما يحدث، في براءة: ”كيف تجلدوا الجلابة؟“...!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق