واحدة وثلاثون جلدة على مؤخرة رجل - 2

جلدة ثانية
سيدي الرئيس..
كثيرون يعتقدون –ومن بينهم أعضاء قياديون فيها- أن تاريخ الحركة الشعبية لتحرير السودان بدأ منذ تمرد مايو 1983م، عندما قررت هيئة أركان الجيش السوداني الاستمرار في سياسة نقل القوات من المنطقة الجنوبية إلى الشمال، ورسَّخت الحركة نفسها هذا الاعتقاد في الأذهان، ملصقة بمسيرتها –منذ ذلك التاريخ- الطابع العسكري والإقليمي الذي لم تستطع تجاوزه حتى هذه اللحظة (كما سأبين لاحقاً) مما ساعد خصومها وأعداءها لحصرها في هذه الزاوية، على النقيض مما عبرت عنه حوارات وكتابات قياداتها، ”على النقيض من كل حركات التمرد في الجنوب، لم تدْعُ الحركة الشعبية لتحرير الجنوب من هيمنة الشمال، بل أكدت على رغبتها -منذ البداية- في تأسيس سودان جديد يعم فيه العدل، وينعم فيه أهل السودان جميعهم بالاستقرار.“ (منصور خالد –أهوال الحرب وطموحات السلام –ص360).
الصورة: جون قرنق موقع سودان تربيون
أكثر ما ساهم في تشكُّل طقس هذا الفهم، والتكلُّس داخل أطره، هو تاريخ الحركات المسلحة في جنوب البلاد منذ تمرد 1955م، ومن ثم حركة أنيانيا ”1“ و”2“، وكلها انطلقت نتيجة الإحساس بالغبن والظلم، بسبب سياسات المركز العقيمة والمتواطئة مع مصالحه. ولكنها اكتفت بنجاحات شوهها سطوع قدراتها العسكرية، وعدم قدرة الأنظمة الحاكمة على اكتساحها وشلها، في مقابل ضبابية مواقفها الفكرية والسياسية، مما جعلها توافق على حدود دنيا من مطالبها، وحتى دون ضمانات كفاية لاستمرار تحققها وتمنع التغول عليها، مثلما حدث لاتفاقية أديس أبابا 1972م.
لكن، هل حقيقة إن تاريخ الحركة الشعبية بدأ منذ ذلك التاريخ؟
بالرغم من تداعيات التغول العملي على بنود اتفاق أديس أبابا، من قِبل النظام المايوي، وإرهاصات التنصل من مقرراته إثر تحالف النميري مع الإسلاميين في النصف الثاني من السبعينيات، انتظمت في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ونشطت بكثافة في بداية الثمانينيات، حركة نشطة إثر بروز ملامح انهيار ذلك الاتفاق. وإذا كانت الحركات السابقة موزعة بين انفصال الجنوب عن الشمال وقيام دولة مستقلة وبين نظام حكم فدرالي يضمن للجنوبيين حكم نفسهم بأنفسهم في ظل الدولة الواحدة، فإن تلك الحركة (National Action Movement ويطلق عليها اسم ”نام“ اختصاراً) تجاوزت بتفكيرها بنود اتفاق أديس أبابا وخلفياته، ومن ثم تداعياته. حيث ارتكزت أهم ملامح بنيتها السياسية والفكرية على تجاوز التقوقع، والتعامل مع واقع أن السودان بلد غني بتنوع مصادره الفكرية والسياسية والثقافية والإثنية، ويمكنه أن يسع الجميع، وأن يكون دولة واحدة وقوية في ظل كل هذا التعدد والتنوع، إذا ما تراضى الجميع على بنائه دون نزعات الهيمنة والاستقطاب الأحادي.
أهم ما في الأمر، هو أن المبادرة هذه المرة جاءت من سودانيين من الإقليم الجنوبي، تحاول استقطاب مجموع شمالي، مخترقة بذلك كل الحواجز المدعاة، وهي مدَّعاة لأن مسبباتها أصلاً غير منطقية، وغير متسقة مع طبيعة السودان الفطرية، وإنما تعبِّر عن طرائق تفكير منغلقة لسياسيين آثروا التمترس في خندق مصالحهم الحزبية والعقائدية –وربما الشخصية- آخذين سطوتهم من تمركز السلطة في يدهم من قبل خروج المستعمر. وكان للجدية التي اتسمت بها قوة الطرح الخاص بتجاوز حالة الشمال جنوب أو الجنوب شمال وتبعاتها، التي تعيشها الحركات والأحزاب السياسية رغم (الشطحات الديكورية)، إلى حالة حركة سياسية قومية تعبر عن كل السودانيين، وليس الاكتفاء بكتابة ذلك في ديباجة الدساتير واللوائح الحزبية، وإنما العبور به إلى آفاق التحقق عملياً، السحر الجاذب لاستقطاب والتفاف الكثير من المتطلعين إلى مفاهيم جديدة للممارسة السياسية.
كان المعبِّر عن تلك الأفكار والمبشر بها –إبان تلك الفترة وأنا في بداية المرحلة الثانوية في مدرسة بورتسودان الثانوية- هم الطلبة من الإقليم الجنوبي، المنتشرين في كل المدارس الثانوية في الشمال. وعلى رأس هؤلاء الطلبة ”باقان أموم“ الذي بلغ مرحلة الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية، والتحق بعدها بكلية القانون جامعة الخرطوم. وكان مبرزاً على المستوى الأكاديمي، ويمتلك نواصي القدرات القيادية على المستوى السياسي، في مرحلة التلمذة.. والآخر هو صديقي العزيز ”بيتر قرنق دي كويك“، وهذا اسم الكنيسة، أما اسم القبيلة فهو ”كير قرنق دي كويك“، وهو شخصية لمَّاحة، يقرأ المستقبل بذهن رائق، وينفذ إلى جوهر الأشياء دون مراوغة. وهما الآن –كما هو معروف- قياديان بارزان في الحركة الشعبية.
في ظل القبضة الأمنية الباطشة لنظام نميري، خاصة بعد أن لبس عباءة الإمامة، وتلفح ثوب الدين، دون أن يكترث كثيراً للتطهر من رجس دواخله، حملت حركة ”نام“ رؤى واضحة لمقاومته، نتيجة وضوح رؤاها الفكرية والسياسية، تفاعلت داخلها الثقافات النضالية للشعب السوداني مجتمعة، وكان من أبرزها على الإطلاق الكفاح المسلح. جاء ذلك في نهاية العام 1980م وبداية العام 1981م، عندما طلب مني ”بيتر قرنق“ التوقيع على ورقة بعد الإطلاع عليها جيداً، أثناء رحلة مدرسية من بورتسودان إلى مدينة الأبيض، نظمتها جمعية التاريخ للطلاب المنضوين تحتها عن طريق السكة حديد، وكنا – هو وأنا وثلاثة طلبة آخرين- على رئاسة مكتبها التنفيذي.
مضمون الورقة (المكتوبة بخط اليد) هو تعهد والتزام للموقِّع عليها، وجاء فيها: ”أنا أمير بابكر عبدالله أتعهد وألتزم بالاستجابة لأي نداء يصدر لي من الحركة للانخراط في الكفاح المسلح ضد دكتاتورية نظام مايو.“ ولأن الثقة متبادلة بيننا بدرجة كبيرة، لم أتردد في استخراج القلم للتوقيع، ولكنه استخرج موسى من جيبه، وأمسك بإبهامي، ونقره بمهارة فنيي التحاليل الطبية، وطلب مني أن أبصم بدمي..!! وعندما أكملت كل تلك الطقوس، رأيتُ وجهه متهللاً وهو يطوي الورقة ويضعها في حقيبته، ويقول لي: ”إنه عهد الدم“. رغم إحساسي العميق بالارتياح المفعم بروح الطلبة المنفعلة بالثورة، أدركت أن ما هو مقبل أمرٌ جلل.
عرجنا أثناء رحلة العودة من عروس الرمال، وبعد توقفنا في العاصمة الخرطوم ليومين اثنين، بسبب انتظار القطار الذي سيقلنا مباشرة إلى بورتسودان، عرجنا إلى داخليات جامعة الخرطوم للالتقاء بالرفيق ”باقان أموم“، ولكنه لم يكن موجوداً، وكأنه ”فص ملح وداب“.. لم يكن له أثر في كل السودان..!! ولم أسمع باسمه بعدها إلاَّ في العام 1984 عند اختطاف الطائرة العمودية التي كانت تقل بعض الأجانب العاملين في قناة جونقلي، أو –ربما- في شركة شيفرون. أما صديقي ”بيتر قرنق“، فقد افترقنا بعد عام تقريباً، إذ عاد هو إلى الجنوب، واستقر به المقام كمعلم في مدرسة ابتدائية هناك، ليرسل لي خطاباً طويلاً تشي سطوره ”بشيء ما“ يلوح في الأفق، ويذكرني فيه بـ”عهد الدم“.. ولم أسمع عنه إلاَّ مؤخراً في الجبهة الشرقية، بعد أن طلبت من بعض القياديين، الذين كانوا في طريقهم إلى مدينة ”يـاي“، تسليمه نسخة من روايتي ”فقاعات زمن التصحر“ التي أهديتها إليه، وقد أصبح ”قائداً كبيراً“، حيث تمت ترقيته إلى رتبة الـCommander قبل سنوات، كما قال لي أحد قادة الحركة الشعبية.
كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان قد انطلقت من عقالها، وأطلقت ”منفستوها“، الذي لم يطلع عليه إلاَّ ”ذوو الاختصاص وقتها، ولكن ظلت جموع الشعب السوداني تنتظر الثالثة بعد الظهر من كل يوم، في حميمية لصيقة وسرية كبيرة، لتدير مؤشر الراديو إلى الموجة القصيرة، حيث ينطلق صوت كفاح الشعب السوداني المسلح، بعد تلك المارشات العسكرية التي تثير في النفوس نشوة غريبة، ويبدأ المذيع في تلاوة أنباء المعارك العسكرية ”وكفى“.. فتنقل إلى كل بيت سوداني صوت دوي المدافع و”أن قوة من الجيش الشعبي بقيادة الملازم، أو النقيب (فلان) هاجمت معسكراً للقوات الحكومية في المنطقة (الفلانية)، وكبدتها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد“.. وأسماء قتلى وأسرى، من بطاقات عسكرية، وآليات ومعدات عسكرية، تم الاستيلاء عليها“، في الوقت الذي تتجاهل فيه وسائل الإعلام (الحكومية) ما يدور هناك..!! هل كان ذلك حباً في الحركة، وإيماناً بها وبجيشها الشعبي، أم نكاية في نظام مايو وبغضاً له..؟!
”جلدة ثالثة“
صبيحة اليوم التالي لانتقالنا إلى سجن الحركة الشعبية في منطقة ”ربدة“ كانت الصورة قد بدأت تتضح ملامحها بالنسبة لي.. حيث الضغط على السلطات الإرترية كان قد بلغ أشده من أجل إطلاق سراحنا.. وبرغم أن هذه النقطة واضحة بالنسبة لكم - سيدي الرئيس- إلا أنني أستميحكم عذراً في شرحها، لمن تقع بين يديه هذه الرسالة.. فبعد أن فشل مخطط الجبهة الشعبية (الحزب الحاكم في إرتريا) الذي كان يهدف إلى إنهاء وجود التحالف الوطني السوداني بقيادة عبدالعزيز خالد، وثبت لها بما لا يدع مجالاً للشك خطأ قراءتها لقدرات التحالف، وبعد أن اضطرت - تحت الضغط الدولي والإقليمي- إلى السماح لعبدالعزيز خالد بمغادرة أراضيها، الذي ظل قيد الإقامة الجبرية في العاصمة الإرترية منذ 18 فبراير وحتى نهاية مايو 2004م، قامت المخابرات الإرترية - منفذة لأوامر عليا- بمحاصرة ”قوات التحالف“، وجريدها من سلاحها (تسللت تلك القوات بصورة أذهلت الإرتريين إلى داخل الأراضي السودانية فيما بعد) واعتقال قيادات ”التحالف“ السياسية والعسكرية الموجودة داخل أراضيها، والبالغ عددهم تسعة أشخاص، في الأول من أغسطس 2004م، وقامت بإطلاق سراح بعضهم لاحقاً، فيما استمرت البقية الباقية داخل معتقلاتها، حتى نهاية سبتمبر من نفس العام، حيث تم نقل أربعة منهم (من بينهم شخصي) إلى سجن الحركة الشعبية.
لماذا تم نقلنا إلى سجون الحركة الشعبية، ومشكلتنا أصلاً مع السلطات الإرترية..؟! وهل هنالك تنسيق بين قيادة الحركة الشعبية العليا وبين السلطات الإرترية في هذا الشأن، أم هو مجرد تنسيق بين قيادة الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية والمخابرات الإرترية التي كانت تعتقلنا..؟! ولماذا لم يتم تسليمنا إلى قيادة التجمع الوطني الديمقراطي..؟! وأين كان التجمع الوطني الديمقراطي طوال هذه المدة..؟! هذه، وأسئلة أخرى، ظلت تحلِّق حول رؤوسنا، وكنا قد قررنا طلب مقابلة قيادة الحركة في الجبهة الشرقية، حسب ضوابط السجن، إلى أن حل المساء، وحان موعد التمام (”عد الرؤوس“) ليطمئن السجان إلى أن سجنه مكتمل العدد.. وبعد فراغه من تلك المهمة، وإعطاء الإشارة بالانتهاء، تدافع الجميع إلى الباب الشوكي للدخول إلى باحة السجن، فيما أمرنا القائد المناوب (نحن الأربعة) بالبقاء، فجلسنا القرفصاء في الباحة الخارجية، في انتظار أوامر أخرى.. وجاء السجان والجلاد حاملاً ”سياطه“، ليأتينا الأمر -وسط دهشة أفراد الجيش الشعبي وضباطه السجناء- بتنفيذ حكم الجلد علينا، وتم تنفيذ الحكم..!! وكان إحدى وثلاثين جلدة على مؤخرة الرجل، تلاشت معها كل الأسئلة الموضوعية التي تحتاج لإجابات واضحة، لتأتينا الإجابة عبر الأيام التي قضيناها، متنقلين بين ”سجون“ الحركة، من وضع سيئ إلى وضع أسوأ منه..!!
تدافعت إلى ذهني كل الصور.. تلك الرحلة من بورتسودان إلى الأبيض وصديقي البشوش ”بيتر قرنق دي كويك“، والقائد ”باقان أموم الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، الذي لا يصعد إلى مكتبه في مبنى المكتب التنفيذي قبل المرور على مكتبي، وتنويري بما يجري، أو باستخراج موضوع ما من الشبكة، وغير ذلك.. والقائد ”ياسر سعيد عرمان“، وطعم تلك الوجبة الدسمة التي دعاني ذات مرة إلى تناولها معه في المطعم الصيني..!! و”د. برنابا بنجامين“، وهو يشجعني على مواصلة الكتابة، ويدعم رغبتي في الكتابة عن الجانب الآخر للجيش الشعبي، ويحمل خطابي بهذا المعنى إلى قيادته العليا، ونسختين من الروايتين اللتين أصدرتهما في وقت سابق، وهو يقول لي بأنهما سيكونان من ضمن منهج التعليم في المدارس في المناطق المحررة..!! مع كل جلدة وقعت فوق جسمي، كانت تتراءى لي صور أصدقائي، ورفاقي، وهم يبتسمون ابتساماتٍ وكأنها تقول لتلك السياط القاسية: ”كوني برداً وسلاماً“..!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق