واحدة وثلاثون جلدة على مؤخرة رجل - 11

 "جلدة خامسة عشر"

واحدة من المفاهيم الملتبسة، والمرتبطة بمفهوم "الجلابة"، التي تستصحبها الحركة الشعبية في حشدها وخطابها التعبوي العملي، لا النظري، هي مفهوم الثقافة "الإسلاموعربية". وعند تناول رؤى ومفاهيم تحتل مواقع مفصلية في قضية الهوية من منطلقات الفعل ورد الفعل تأتي الرؤى قاصرة. فمقابلة إستعلاء المركز بثقافته الأحادية التي يحاول فرضها بالقوة عبر وسائط عديدة، بمحاولة نفي واستئصال مكون رئيسي –شئنا أما أبينا- من مكونات هويتنا السودانية (هما الإسلام واللغة العربية)، يقود –كذلك- إلى منهج إستعلائي للتعامل مع قضية محورية في تشكيل الأمة السودانية.


الحركة الشعبية في إطار حربها ضد المركز وتبنيها لقضايا الهامش، ظلت تفضح وباستمرار (مثلها في ذلك مثل العديد من القوى السياسية السودانية) مخططات المركز الهادفة لهيمنة ثقافة واحدة وهي ما تعارف عليها بالثقافة "الاسلاموعربية". ورغم اتفاقي التام مع الرؤية القائلة بأن السلطة في المركز ظلت وباستمرار تعمل على هيمنة الثقافة العربية والإسلامية، إلا أن ذلك كان من أجل المحافظة على مصالحها ونفوذها، واستخدمت كل أدوات وأجهزة الدولة التي ظلت تحت سيطرتها منذ الاستقلال لإستمرار عملية الإزاحة الثقافية، التي شكلت ألويتها منذ (خراب) سوبا وبداية تشكل الممالك الإسلامية على أنقاض المسيحية، شرقاً وغرباً وجنوباً. 

القراءة المتأنية لتاريخ وواقع السودان يقول أنه يتشكل ويتخلق عبر مسيرة طويلة وداخل منظومة قوانين معملية، برغم ما تتيحه من مساحة لإنحرافات هنا وهناك تتجلى مظاهرها في صور استغلال ذلك التشكل والتخلق لصالح مشاريع فكرية كانت أو سياسية. ومظاهر الصراع الذي يأخذ أشكالاً وصوراً متعددة واحد من تلك المعامل التي تتشكل داخلها هويتنا. ولأنه لا يمكننا تحديد سقف أدني ولا أعلى لمفهوم الهوية ولا تكبيل عناصر تفاعلها، سيظل الصراع يأخذ أشكاله وصوره باستمرار والتي تحددها مراحل تطور الهوية. لذلك تبقى الحرب –من وجهة نظري- واحدة من معامل كثيرة لتشكل الهوية، وكذا في حالة السلم للصراع أدواته المختلفة والمتعددة.

إن التعامل بسطحية مع قضية الثقافة "الإسلاموعربية"، ومحاولة تبني مواقف إقصائية تجاهها، لن ينفي واقع كونها موجودة ومتجذرة وأنها واحدة من عناصر هويتنا الثقافية. وتتجلى حقيقة كون أن للثقافة العربية الاسلامية من عناصر القوة ما جعلها تنتشر وتطغى دون الحاجة لسلطة مركزية، وإن كانت السلطة المركزية قد لبست عباءة تلك الثقافة فهو من أجل تقوية سلطانها واستمرار سيطرتها، وليس عيباً أن تطغى ثقافة ما على أخرى إذا ما كانت تمتلك عناصر القوة التي تؤهلها لذلك، ولكن العيب في التباكي على تلك الهيمنة دون العمل الجاد على تدعيم عناصر القوة في الثقافات الأخرى من أجل خلق التوازن المنشود.

وعناصر القوة في تلك الثقافة التي يفرض العقل التعاطي بإيجابية معها، تتجلى في التاريخ الطويل منذ دخولها السودان وتفاعلها مع العناصر الثقافية المحلية تأثراً وتأثيراً. ويبرز تطور اللغة -حاملة تلك الثقافة- وسودنتها بعيداً عن المؤسسات الرسمية عنصراً هاماً من عناصر تلك القوة. وهي لغة مكتوبة سواء على المستوى المحلي أو الرسمي مما يدعم موقفها أكثر، ويجعلها أكثر استجابة ومطاوعة للتعامل معها، لتكتسب نكهتها الخاصة في كل مناطق السودان، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وقادرة على حمل مكونات الثقافات الأخرى ونشرها. 

أمام هذا الواقع تقع مسئوليات جسام على الداعين لبعث ثقافاتنا القديمة من عهد كوش وعلى المناضلين من أجل تثبيت دعائم الثقافات السودانية الأخرى وهي كثيرة وإيجاد مكان مميز لها وسط هيمنة الثقافة التي يتبناها المركز. أول هذه المسئوليات هي إحياء عناصر القوة في تلك الثقافات، وعلى رأسها اللغات التي تحملها. مع ملاحظة أن هناك العديد من اللغات المحلية قد بدأ ناشطون في كتابتها مثل لغة الدينكا والنوير والبجا والنوبة. وقد وقع بين يدي بعض الكتب المترجمة وخاصة الكتاب المقدس مترجماً إلى بعض اللغات حتى "عربي جوبا" وجدت حظه من تلك الترجمات. ولكن تظل كتابة اللغات المحلية قاصرة عن أداء دورها ما لم تدخل في دورة ودائرة التعامل اليومي، وكذلك كل عناصر الثقافة الأخرى.

إذا كان إنتزاع الاعتراف بالتنوع السياسي والديني في السودان (نظرياً) قد أخذ وقتاً طويلاً ونضالاً مريراً، فإن الاعتراف بالتنوع الثقافي منتزع رغم أنف المركز، ورغم محاولات تلبسه بلبوس ثقافة واحدة وفرض سيطرتها من أجل مصالحه فهي مضطرة للتعامل معه كواقع حتى من أجل إستمرار سيطرتها (والمركز هنا لا يمثل بالنسبة لي سوى السلطة الحاكمة التي استفادت من إنتشار تلك الثقافة). وهو منتزع لوجوده (بياناً) على الأرض ولم ولن تفلح محاولات محوه بالقوة أياً كانت المصادر التي تعتمد عليها. ويمثل سقوط محاولات دولة المشروع الحضاري في إمتحان القوة من اجل تصفية وجود الثقافات الأخرى مثالاً ساطعاً برغم إمتلاكها لكل أدوات ووسائط الدولة وأجهزتها.

ما ظل يشغلني زمناً هو بالرغم من وجود ثقافات عديدة في السودان ولغات كثيرة إضافة إليها، استطاعت العربية التغلغل في النسيج الثقافي للقوميات المختلفة. وعندما رسمت خريطة لذلك وجلست في أعلى الشمال، كان المشهد أمامي يبرز نجاح العربية وقدرتها على استخدام قوانين الإزاحة فيزيائياً، فهي قد تمددت في كل أطراف السودان ناهيك عن وسطه، ومتى ما وجدت عقبة أمامها تجاوزتها ولكن بعد أن تنفث فيها بعضاً من روحها. ولكن ما هو مدهش هو قدرتها على التلون وعلى إندغامها وتماهيها مع الثقافات الأخرى لدرجة تعجز أي عربي مسلم غير سوداني من تحديد ملامحها وسط هذا (القوس قزح الثقافي السوداني). 

عندما التفت إلى الوراء وجدت مركز تلك الثقافة يقيم خلفنا بمؤسساته وآلياته، وهو يعمل بانتظام وفق قوانينه. ولم يكتف ذلك المركز باستمرار بث الثقافة "الإسلاموعربية" جنوباً، بل اكتشفت أنه، وبعد فشله في حجب الثقافات الأخرى القادمة من أقصى الشمال عنَّا، وتلك القادمة من أدنى وأقصى الشرق والأخرى القادمة من أقصى الغرب، قرر تقديمها لنا بعد تمريرها عبر غرباله الخاص لذلك يجيء تأثيرها بطعم ولون "إسلاموعربي". وتقف الترجمات التي يقوم بها (المستغربون)، من زمن رفاعة رافع الطهطاوي والمنفلوطي ومن قبلهما ومن بعدهما وذلك الضخ المعلوماتي عبر (الفلتر العروبي)، شاهدة على ذلك فنحن لا نستقي ثقافة الآخرين إلا من خلالها، وهي لا تأتينا إلا بعد أن يضعوا بصماتهم عليها. هذه واحدة من نقاط ضعفنا الكبيرة، إعتمادنا على مجهودات الآخرين واسترخاءنا وتهاوننا في تحمل مسئولياتنا.

عندما حدقت ببصري خلف الجنوب والغرب والشرق، لم أجد مراكز مؤهلة لبث ثقافات لها من القوة ما تستطيع أن تعادل به معادلات تلك القوانين. ولكن بالنظر إلى داخلنا ألتمس بأننا سودنَّا ما صدر إلينا ولم يمح سودانيتنا (على تنوعها) بقدر ما تأقلم معها. إذاً علينا، إذا كنا قد اعترفنا بالتنوع الثقافي في السودان، دعم هذا الاعتراف بمؤسسات دولة قادرة ودستور حاكم ووسائط ثقافية وإعلامية مؤهلة لاستيعابه وإبرازه، وقبلها تأهيل قدراتنا لمقابلة إحتياجات تلك الثقافات حتى تقف على أقدامها وتثبت قدرتها وأحقيتها في الوجود. فعمليات التطور الطبيعي بصراعاته لن ترحم الضعيف، بل ستقف مع الأقدر. ولن تجدي محاولات الإقصاء ولا المواقف التكتيكية المنطلقة من أبعاد سياسية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق