ود الشيخ ومشاهد سودانية .. (النصراني) - دفاتر قديمة 3

لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إرتد كثيرون ممن دخلوا الإسلام في حياته، في مناطق عديدة من جزيرة العرب. وكان المرتدون فريقين، أولهما قد سار وراء المتنبئين الكاذبين أمثال مسيلمة وطليحة والأسود، وآمنوا بما يقول هؤلاء الكذّابون، وثانيهما بقي على إيمانه بالله وشهادته بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة، إلا أنه قد رفض تأدية الزكاة وعدّها ضريبة يدفعها مكرهاً، وقد أرسل هذا الفريق الثاني وفداً إلى المدينة لمفاوضة خليفة رسول الله سيدنا أبوبكر.
الصورة: من فيس بوك
نزل الوفد على وجهاء الناس في المدينة، ووافق عدد من كبار المسلمين على قبول ما جاءت به رسل الفريق الثاني، وناقشوا في ذلك الأمر، أبا بكر، ومنهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وغيرهم، إلا أن أبا بكر قد رفض منهم ذلك، وقال قولته المشهورة "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه".
الردة هنا، في هذا السياق، تعني أن الشخص المسلم كانت له ديانة أو بلا دين قبل دخوله الإسلام، ثم يرتد إلى دينه الأول أو يتخلى عن بعض العبادات في الإسلام، كما حدث عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهناك كما في بعض الدراما الدينية نسمع احد الشخصيات يقول لآخر: "هل صبأت يا رجل؟" لتجيء هنا بمعنى شخص مسلم إرتد عن الإسلام، ولكن الصابئة هم من يعتقدون بنبوة يحى عليه السلام كما يشير بعض أهل العلم، قال عز وجل في سورة الحج : {أن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء قدير }. ويقال – والله أعلم – أنهم موجودون الآن في جنوب العراق وفي إيران ويعرفون بصابئة البطائح.
أما قصة صديقي ود الشيخ – المسلم البالغ العاقل - فلا هي عن الردة ولا هو من الصابئة، ولكنها تستحق الكتابة لما فيها من دلالات وطرائف عندما وجهت له تهمة التبشير للمسيحية والتنصُّر، ولما يمكن أن تسهم به في دعم مفهوم التعدد والتنوع الذي يميز السودان. ولأنه يتسم بالعفوية وحسن النية، وجد صديقي نفسه فجأة مواجهاً بتلك التهم، وكان ذلك في اول أيام الإنقاذ حين كان أنصارها يشدون لجام حناجرهم ويعدون أبواق مطربيهم وهم ينشدون "أمريكيا روسيا قد دنا عذابها" وهم يعتقدون أن الشعب السوداني هو (أمريكيا روسيا).
العلاقة مع الأرتريين
تبدأ القصة بعلاقة ود الشيخ مع بعض الإخوة الأرتريين في مدينة بورتسودان ومنهم حامد عجوز وبرهاني قبرهويت في نادي للأرتريين في حي ترانسيت الشهير بالمدينة، وتتطور العلاقة لينظم لهم مباريات لكرة القدم (وهو محب لهذه اللعبة لدرجة الوله) مع بعض فرق الناشئين في المدينة، لتقام دورة رياضية ضمت بعض تلك الفرق مثل نادي النجوم بديم التجاني ونادي الهدف بالأسكلة. لتتواصل العلاقة بمجهوداته في التعريف بالقضية الإرترية في مدينتي بورتسودان وكسلا في أندية الناشئين، ليتعرف أثناء ذلك على بعض قيادات الجبهة الشعبي منهم مصطفى نور حسين ومحي الدين شنقب وعثمان عبدالله، ليبلغ التطور مداه بدعوته إلى زيارة جبهات القتال ضد الإثيوبيين في منطقة قرورة وحتى مدينة كرن المحاصرة وقتها بقوات الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا مروراً بمنطقة نقفة. ويصطحب في تلك الرحلة احد الصحفيين العاملين في مجلة (سنقنيب) وأحد أصدقائه مصطفى طالب.
بعد عودته من الجبهة إتصل بأحد التشكيليين من حي الأسكلة في بورتسودان لتصميم لوحة تحتوي على تراث كل أقاليم إرتريا من الجبص، وعند إستلام اللوحة صادف ذلك اليوم عشية تحرير إرتريا ليقدمها للسيد مصطفى نور حسين الذي أبدى دهشته بروعاتها ليقدمها بدوره، أثناء إحتفالات التحرير، في مزاد علني وتباع بمبلغ إثني عشر ألف جنيه وقتها.
في خضم تلك الإحتفالات يغريه أحد أصدقائه الأرتريين بملء أورنيك لإحدى الجهات أو المنظمات للحصول على جواز سفر (أعتقد أن الجهة هي الأمم المتحدة)، ليملأ ذلك الطلب ويزيله بعنوان أحد أصدقائه العاملين في هيئة الموانئ البحرية. عدة أسابيع ويأتي ذلك الصديق يحمل مظروفاً يحتوى على الجواز وتنفتح طاقات من الأمل أمام أحلام ود الشيخ الذي يعتقد أن جميع مشكلاته قد حلت الآن وبحصوله على تلك الوثيقة.
سافر صديقي يحمل جوازه واحلامه متجهاً نحو الخرطوم حيث السفارة الأمريكية هناك للحصول على تأشيرة سفر إلى بلاد العم سام، وهو لا يعلم أن (أمريكيا) قد دنا عذابها. إلتقى أحد المسئولين في السفارة يعتقد أنه القنصل ويدعى (سابرين توني) إفريقي أمريكي يتحدث اللغة العربية بطلاقة. رفض المسئول منحه تأشيرة الأحلام ونصحه بالسفر إلى كينيا أو إثيوبيا للحصول عليها من سفارتهم هناك.
عاد إلى مدينة كسلا يجرجر أزيال خيبة مسعاه، وينكفئ زاهداً عن الحياة ومباهجها في منزل جده بغرب القاش وهو الشاب المحب للحياة والمنطلق الروح منذ ولادته. لكن الأمل يبعث من جديد بعد أن ظل متوارياً تحت رماد الخيبة إلى حين، عندما زارهم في البيت الدكتور أوغستينو أقوك مييك لمعاودة جده المريض حينها، والدكتور صديق لعمه وبمثابة طبيب العائلة. لم يتوان ود الشيخ في رواية قصته على مسامع د. أوغستينو الذي قرر مساعدته في الحصول على التذكرة وطلب منه مرافقته إلى الكنيسة صباح اليوم التالي. إرتدى أبهى ما عنده وامتلأ وجهه بالحياة وطفح بالأمل من جديد وهو يلج بوابة الكنيسة بصحبة الدكتور الذي عرَّفه بالسيد جاكوب والقسيس أميل تادروس. شرح لهما الدكتور قضية صديقي وقال لهما إنه يريد مواصلة دراسته طالباً تقديم الدعم المالي له وكل ما هو ممكن.
صار ود الشيخ يتردد على الكنيسة وتوطدت علاقته بجاكوب والقسيس أميل تادروس إلى أن إلتقى المطران (وهو من الأرتريين) الذي قال له: ليس لدينا إعتراض على تقديم أي مساعدة لك طالما جئتنا من طرف د. أوغستينو، ولكن لأنك مسلم لابد أن ننتظر المشرف على الكنيسة (إيطالي) وما سنفعله هو أن (نزكيك) أمامه. وفي أثناء تردده على الكنيسة كانت تقيم دراسات تقوية لطلاب الشهادة السودانية مجاناً فقدم لإبن عمه للإلتحاق بها.
إتصل به الدكتور بعد عدة أيام وطلب منه مقابلة القسيس أميل، لكنه لم يجده في الكنيسة ليعرج على بيت عمته في حي المربعات حيث تقع الكنيسة ليتناول وجبة الإفطار معها، وكان حضوراً في تلك الأثناء أبن عمته وصديق له عرف فيما بعد أنه من المنتسبين لجهاز الأمن. ولأن صديقي لسانه (طالق) ولا يحتفظ بسر في صدره فقد انطلق في الحديث عن قصته عندما سأله ذلك الشخص عن سر زيارته هذه الأيام للكنيسة وعلاقته بجاكوب الذي وصفه بالإنسان الطيب والجيد، دون أن يفطن إلى مغزى السؤال.
صباح اليوم التالي زار صديقي الكنيسة والتقى أميل الذي أبلغه ان الخطاب تم إعداده وهو مكتمل الآن وفي انتظار الختم، وان عليه المغادرة مباشرة إلى إرتريا ومنها إلى اديس أبابا لتسليمه في مكتب الكنيسة هناك وأنه سيجد كل مشكلاته قد حُلَّت. وكان الخطاب مكتوباً باللغة اللاتينية. كاد يطير من الفرح وهو يحمل خطاب احلامه بين يديه، وأسرع إلى محل جده في سوق الصياغ. طلب منه جده السفر بأسرع وقت ممكن وأنه سيطلب من احد أبناء الرشايدة نقله فوراً عبر الحدود إلى إرتريا، لكنه أصر على العودة إلى المنزل ووداع جدته قبل المغادرة.
قصة الاعتقال
في تلك الأثناء وهو يمد يده بالخطاب إلى جده للاحتفاظ به لحين عودته يفاجأ بأحدهم يقبض على يده وينزع منه الخطاب، لتحضر عربتان إحداهما مليئة برجال يحملون أسلحة بزي مدني. ويقتادونه لمكاتب الأمن، وبعد وصولهم مباشرة حضر عميد في الجيش بزيه الرسمي وقيادات من الأجهزة الأمنية.
ليسأل العميد: هل قبضم على الشخص المطلوب؟ وكانت الإجابة بأن أشاروا إليه بأن هذا هو الشخص المطلوب. إندهش العميد لصغر سنه ولجسده الهزيل، وقال في نبرة أقرب للسخرية: يا زول إتنصرت متين؟ رد عليه ود الشيخ في دهشة وبسرعة اعتقد انها ربما تدعم موقفه : أنا لم أتنصر ولا حاجة. ليتابع سعادة العميد: وكما بتبشر بالمسيحية وتدخل ود عمك الكنيسة.
لم ينقذه سوى آذان الظهر وأن الشهر شهر صوم (رمضان)، فذهب مع الآخرين من رجال الأمن إلى الحمام، لحظتها عرف أنه محاط من كل الجهات برجال الأمن وبسلاحهم وأن المسألة ليست بالبساطة التي يتخيلها. توضأ وعاد ليؤدي صلاة الظهر مع الجماعة، وبعد إنتهاء الصلاة كان لا يزال جالساً يسبح، ليسمع إستهزاء من حوله بموقفه في محاولة لاستفزازه عسى أن يكون الأمر غير ما يرون.
أمره احدهم بعد ذلك بركوب العربة وسط تلك الحراسة المشددة ليعود إلى منزل جده، وقاموا بتفتيش المنزل إلى أن عثروا على جواز السفر. وعندما قابل الضابط المسئول جده سأله عن علاقته به، فقال له: إنه أبن محمد أحمد ود محمد علي الحسن، وكان الضابط يعرف أسرته معرفة وثيقة، وقال لجده: الولد ده إتنصر.
فرد عليه الجد ضاحكاً: منو القال ليك هو مسلم عشان تقول يتنصر.
تم تحويله مباشرة بعدها إلى حراسة في رئاسة الشرطة بمركز التدريب قرب مبنى الجوازات بمدينة كسلا، ليقضي ليلته هناك حيث زاره في المساء ضابط من أبناء الجنوب برتبة مقدم وألقى عليه التحية بإسمه. وقال له: طبعاً مندهش إني بعرف إسمك. واخبره أن موضوعه أصبح سيرة كل المدينة وأنه جاء لزيارته ليرى ذلك الشخص الذي (تنصر) في هذا الوقت. وسأله إن كان محتاجاً لشيء، فأخبره بانه جائع ويريد سيجارة. وقد كان أن جاءه الضابط بما يريد وهو يهز رأسه وهو يردد "حاجة عجيبة". لينتقل بعد ذلك صديقي ود الشيخ ويقضي كل ليلة في حراسة مختلفة إلى ان أصيب بحالة أكتئاب شديد وهو لا يدري مصيره وصار لا يأكل. وصار الحديث يتردد عن إضرابه عن الطعام إلى أن وقع على مسامعه، وكانت أول مرة ينتبه فيها لمسألة الإضراب عن الطعام ليدخل فيه هذه المرة حقيقة ويعلن ذلك.
إلى أن جاء يوم التحقيق معه وإعادته إلى مكاتب جهاز الأمن وأخذت أقواله، حيث تم استدعاء القسيس والمطران ود. أوغستينو. جاء ثلاثتهم وهو جالس في مظلة الجامع في انتظار ما ستسفر عنه اللحظات القادمات، تقدموا نحوه وألقوا عليه التحية وطمانوه بان المسألة بسيطة وستنتهي. ويتناهى إلى مسامعه صوت د. أوغستينو المرتفع من بعيد وهو يقول للمتحري: "الكنيسة عندها منح للمسلمين ودي حاجة طبيعية وإنتو بتفرقوا بين الأديان، ونحن مسيحيين بنتعلم بي منح من مسلمين أيضاً، وسببتوا لينا حرج مع اهل الشاب ونحن عايشين وسطهم". في ذلك اليوم، وبعد مغادرة الثلاثي، تمت استضافته في مكتب حيث قضى ليلته في سرير مريح ليطلق سراحه في اليوم التالي. ونادى المتحري على عربة تاكسي وبعد ان دفع له أجره طلب من ود الشيخ المغادرة والذهاب فوراً إلى جدته لأنها (تعبانة) مما جرى له. وطلب منه عدم مغادرة المدينة دون إخطارهم.
إطلاق سراح ود الشيخ
صادف إطلاق سراحه يوم خميس ليذهب ظهر اليوم التالي لقضاء صلاة الجمعة في مسجد السكة الحديد القريب من منزل جده، وكان الجميع بمن فيهم الإمام يعرفونه وأسرته ولكن لا يعرفون أنه بينهم الآن وانه الشخص الذي (تنصر)، فامسك أحدهم بعد الصلاه بالمايكرفون ليتحدث حديثاً مطولاً عن الشاب الذي (إرتد) عن الإسلام، وكيف أن النصارى أغروه بالمال، وكانوا يرتبون لسفره إلى أوربا ليعود إلى البلاد ليبشر بالمسيحية (وكلام كبار كبار لم أفهم منه شيئاً على حد قول ود الشيخ).
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فحتى في المواصلات العامة يدور الحديث حول هذا الموضوع لدرجة ان السائق كثيراً ما ينسى مهمته ليشارك في الحديث الدائر عن الشخص الذي (تنصر)، وود الشيخ بين الركاب بين المندهش والمحبط. ليستمر الحديث في المساجد والمواصلات العامة فترة من الزمن، ووجهت له بعد ذلك كثير من الدعوات ليحكي قصته، أثناء جلسات القهوة ودعوات الغداء.
إلى أن جاء يوم وكان في حاله نفسية سيئة، طلب منه فيصل عبدالله أبشر المحامي، الذي يمت له بصلة، مغادرة مدينة كسلا إلى الفاو وتقدم نيابة عنه بطلب من جهاز الأمن بذلك. غادر ودالشيخ إلى الفاو حيث عمه يقيم هناك بأسرته، إستقبله عمه بفتور وسط دهشه أبنائه الذين يحبون ود الشيخ وعادة ما يستقبلونه بكل ترحاب كما يفعل هو عندما يزورونه في بورتسودان. ولكن عمه قالها في وضوح " يا ود اخوي أنا عندي بنات فتوات وناس الأمن ديل بينطوا الحيط وإنت زول مشبوه فأحسن تشوف ليك صرفة"، وأمام ضغط وإلحاح الأبناء فكر العم في حيلة ثانية حيث اقترح عليه العمل في مشروعه الزراعي خارج المدينة والإقامة هناك لحين إنجلاء المسألة. وهو ما حدث بالفعل حيث زرع ود الشيخ مساحة واسعة بالبطيخ ليجيء موسم الحصاد على غير ما هو متوقع وكان عائداً مجزياً لا يدري كيف يصرفه بعد أن طارت أحلام السفر إلى أمريكا وأوربا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق